المياه كلها بلون الغرق

رغم أنها مقتطفات .. فقد أثقل بها الفيلسوف كتابه، تشاؤماً وبؤساً بل وتجديفاً على الله!

إنه الفيلسوف الروماني المولد الفرنسي الإقامة (إميل سيوران 1911 : 1995) الذي اصطبغت فلسفته بالتشاؤمية المفرطة حد مراودة نفسه الانتحار، وقد عدّ كل ما في الوجود مجرد كذبة، وارتضى بالعزلة بديلاً وبالنشوة التي التمسها فيها! لا يمنع هذا من عدّه مفكّر ذو نظرة ثاقبة، وقد تأثر بالفلسفات الإغريقية والشرقية والميثولوجيا الدينية، لا يتوارى في نظرته السوداوية خلف مسميّات مبهمة مصطنعة كبعض أقرانه الفلاسفة، بل إنه يُفصح عن جوهره المظلم، وبكل فجاجة .. وإن كان في هيئة مقاطع، كما في هذا الكتاب!

تذكر سيرته أنه بعد أن أنهى دراسته الجامعية، وقد تملكه زهو برطانة فلسفية حظي بها مبكراً، ضد كل من تحدث بلغة عادية في نظره، حدث ما لم يكن في الحسبان وعرّض الفيلسوف الشاب لانقلاب داخلي حطّم مشاريعه المستقبلية وخطط له بأخرى! فقد ابتلي بأرق دائم حلّ عليه ككارثة، جعله يسرح في الطرقات الخالية تارة ويخالط المنعزلين والمنحرفين تارة أخرى، حتى أدرك في جهنمية تلك الليالي الظلامية بمدى بطلان الفلسفة، فهجر لذلك أطروحته العلمية. ومن سخرية القدر أن طال عمره حتى تجاوز التسعين، ومات في أحد الأحياء الفقيرة، ضارباً بعرض الحائط الأعراف الاجتماعية إلا من صديقة أخلص لها، بلا زواج وبلا أطفال، حتى وافته المنية!

والمترجم إذ يعرض جانباً من سيرته، يتسلسل في عرض المحن التي واجهت الفيلسوف طيلة حياته، واعتبرها بمثابة (انسلاخات) وعدّها بخمس. الانسلاخ الأول: “لحظة اقتلاع الجذور” وذلك إثر رحيله وعائلته لمدينة مجاورة وهو لا يزال طالباً في الثانوية. الانسلاخ الثاني: “الانسلاخ من طمأنينة النفس” وذلك بعد مواجهة مع والدته التي كانت ذات مزاج صعب وحساسية مفرطة خلاف والده، وقد صرّحت له يوماً وهو في العشرين من عمره إثر مشادة، بأنها كانت ستجهضه لو علمت ما سيؤول إليه حاله. الانسلاخ الثالث: “مرض القلق، فقدان نعمة النوم”، الانسلاخ الذي دعاه للأخذ بنصيحة نيتشه بـ “تحويل ليالي الأرق الطويلة إلى وسيلة للمعرفة”، فعكف حينها على الكتابة. الانسلاخ الرابع: “الخروج من لغة إلى لغة أي من هوية إلى هوية”، حيث ما لبث بعد انتقاله إلى باريس لإعداد أطروحته الفلسفية، أن تخلى عن كل شيء منكباً على المطالعة والتجوال في الأرياف، متحولاً بعدها في الكتابة من لغته الرومانية إلى اللغة الفرنسية، الأمر الذي أصابه بالاغتراب والتمزق من حينها إلى آخر حياته. الانسلاخ الخامس: وهو إذ لم يكن يعتد لا بالرأي العام ولا بوسائل الإعلام ولا بالجوائز والتكريمات، وقد قال: “لا يهتم بي إلا من كان به بعض من مس”، فقد تغير إلى النقيض بعد أن عكف على إصدارات كتب الجيب بدلاً من إصدار الكتب والدراسات والمخطوطات.

وبعد كلمة المترجم في (على سبيل التقديم) والذي أتقن ترجمة الكتاب من نصّه الأصلي (Syllogismes de l’amertume – By: Emil M. Cioran)، يعرض الفيلسوف آرائه المركبة من خلال هذه المواضيع:

1. ضمور الكلمة
2. لص الأغوار
3. زمن وأنيميا
4. غرب
5. سيرك العزلة
6. دين
7. حب حيوي
8. في الموسيقى
9. دوار التاريخ
10. عند منابع الفراغ

ومنها، وقد نال بها الكتاب ثلاثاً من رصيد أنجمي الخماسي، أدوّن ما علق في ذهني وأقتبس بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

• يقول في (ضمور الكلمة) عن تبعات هواجس كل كاتب باضمحلال إنتاجه: “الخوف من العقم يدفع الكاتب إلى أن ينتج فوق طاقته، وأن يضيف إلى الأكاذيب المعيشة أكاذيب أخرى لا تحصى يستلفها أو يختلقها اختلاقاً. تحت كل (أعمال كاملة) يقبع دجّال”.
• يقول في (زمن وأنيميا) عن النتيجة الحتمية لكل باعث ودافع: “لا بد لكل رغبة من أن تلتقي آجلاً أو عاجلاً بذبولها: بحقيقتها”.
• يقول في (سيرك العزلة) عن العزيمة التي تستيقظ في الصباح وما تلبث حتى ينهشها الخوار إلى آخر الليل: “تنهض مثل صانع معجزات عازم على تأثيث يومه بالخوارق، ثم تستلقي على سريرك من جديد لتلوك حتى الليل هموم العاطفة والمال”.
• يقول في (دوار التاريخ) عن زيف الحياة طالما ملكها حفنة من المنافقين: “إذا اعتنقت طبقة اللصوص أسطورة، فانتظروا مذبحة، أو ما هو أسوأ من ذلك: ولادة دين جديد”.

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (19) في قائمة طويلة جداً خصصتها لعام 2025، وقد حصلت عليه من متجر (جملون) الإلكتروني في فبراير من عام 2021 ضمن (20) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة .. وهو سادس ما قرأت في مارس من بين سبعة كتب!

من فعاليات الشهر: يتوافق أوله مع دخول شهر رمضان المبارك الذي أتوقف فيه عادة عن القراءة، لكنني تمكنت في هذه المرة من التقاط بعض الكتب الخفيفة في محتواها! وعن هذا الكتاب تحديداً، فقد قرأته في اليوم الأخير من رمضان.

ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: كينونة الإنسان / احرق بعد الكتابة / العالم كما أراه / المختصر / لست وحدك: ذاكرة حرية تتدفق

تسلسل الكتاب على المدونة: 619