المختصر

جرعة فلسفية مترعة بفائض من طوباوية تسعى لخير الإنسان وحسب، والتي بدت لا واقعية في مثاليتها بل وسلبية في بعض جوانبها، كحيلة لمن لا حيلة له أمام طغيان الطغاة وبؤس الحياة!

ففي روما القديمة، وبين القرنين الأول والثاني الميلاديين، يقف شيخ نحيل يجلله الصدق والتواضع والحياء بين تلاميذه من طليعة الشباب، يجود عليهم بحكمة رواقية بعد أن تجرّد من أغلال العبودية وترّفع عن ماديات الحياة إلى المدارك العقلية والمعارج الروحية، وهو الذي نُقش على قبره عبارة: “عبد أعرج معوز، ولكن عزيز لدى الآلهة”، وقد ترك إرثاً من التعاليم السامية ضمنّها تلاميذه في كتابين رئيسيين، هما (المحادثات) و (المختصر) … إنه الفيلسوف الرواقي (إبكتيتوس 55 : 125م).

يظهر إبكتيتوس وهو يحمد الله أن دعاه لمهرجان الوجود وجعله شاهداً على عرضه المذهل بل ومفسراً له، فلو كان عندليباً -كما افترض- لاشتغل بمهنة العندليب، لكنه كائناً عاقلاً الذي ليس له سوى أن يكبّر الله، وهي مهنته التي أكدّ أنه مؤديها على تمامها ولن يتنحّى عنها ما بقي! وهو إذ يقرّ بأنه ليس بالدور الهيّن، فـ “الكون كتابه والخلائق كلماته” قاصداً الله، إلا أن القراءة قراءته هو والفهم فهمه هو والتأويل تأويله هو. وهو في تسليمه لهذا الدور، يتساءل ويجيب عن صرفه بعد انقضاء المدة المقدرة له في هذه الحياة بأمر الله، قائلاً: “سأغادر مرضياً وانصرف دون تلكؤ، وما أزال أرضى بقضائه حتى أجعل مقدوره إرادتي ومحتومه اختياري”.

ومن الكتاب الذي جاء في ترجمة خلابة من نصّه الأصلي (Ἐγχειρίδιον Ἐπικτήτου) ونال أربعاً من رصيد أنجمي الخماسي، أدوّن ما راق لي من فلسفة الرواقية وأقتبس بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

• يعتبر إبكتيتوس أن توجيه الجهد نحو إشباع الرغائب الجسدية هو ضرب من البلاهة، إذ أن الأجدر توجيهه نحو كل ما يرتقي بالعقل! يقول في (متعلقات الجسد): “من البلاهة أن تُكِب على ما يتعلق بالجسم: أن تطيل التدريب، والأكل والشرب، وتصريف الوظائف الحيوانية الأخرى. مثل هذه الوظائف ينبغي أن تؤديها بشكل عابر، وأن تصرف جُل اهتمامك إلى العقل”.
• يشفق إبكتيتوس على ذلك الذي يغلظ بقوله وفعله على من لا يتفق معه برأي صائب في أمر ما، فإنما هو لا يضر بهذا الأمر بقدر ما يضر بنفسه وبجهله له! يقول في (الإهانة): “إذا أهانك أحد بالقول أو الفعل، فتذكر أنه يفعل أو يقول ذلك لأنه يراه موافقاً له؛ فمن غير الممكن له أن يتبّع ما يبدو لك أنت صواباً بل ما يبدو صوابا له هو . وبالتالي فإذا كان على خطأ في رأيه يكون هو الطرف المضار، من حيث هو الطرف المُضَلَّل. ذلك أن من يأخذ قضية صادقة على أنها كاذبة فإنه لا يضر القضية، بل يضر نفسه بضلاله في شأنها. إذا انطلقت، إذن، من هذه المبادئ فسوف تكون متسامحاً مع مَن يُهينك، قائلاً لنفسك في كل مناسبة: هكذا يبدو له الأمر”.
• يوصي إبكتيتوس بالتمسك الذي لا يحيد بالمبادئ، متى اتخذها المرء على عاتقه ومهما واجه من صعاب في شأنها! يقول في (التزم بالمبادئ): “أياً ما كانت المبادئ التي اتخذتها لنفسك فالتزم بها كأنها قوانين، وكأن من الفجور أن تنتهك أياً منها، ولا تلتفت إلى ما عسى أن يقول عنك الناس فهذا ليس من شأنك”.

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (17) في قائمة طويلة جداً خصصتها لعام 2025، وقد حصلت عليه من متجر (بيت الكتب) الإلكتروني في ديسمبر 2023، ضمن أكثر من (120) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة .. وهو رابع ما قرأت في مارس!

من فعاليات الشهر: يتوافق أوله مع دخول شهر رمضان المبارك الذي أتوقف فيه عادة عن القراءة، لكنني تمكنت في هذه المرة من التقاط بعض الكتب الخفيفة في محتواها.

ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: كينونة الإنسان / احرق بعد الكتابة / العالم كما أراه / أسباب للبقاء حياً / المياه كلها بلون الغرق 

تسلسل الكتاب على المدونة: 617