لأنه جورج أورويل .. ولأنه كتاب لا رواية لا سيما في (أدب المقالة) .. أقبلت على قراءته، لكنه كان مخيباً للغاية!
باستثناء مقالة (كيف يموت الفقراء) التي عكست جانباً مظلماً لمستوى الرعاية الصحية الذي كان سائداً في السابق، والذي قد لا يزال يخيّم بأشباحه على الأفرع المخصصة لفقراءنا في مستشفيات اليوم، فإن الكتاب حمل متفرقات عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية التي عايشها الكاتب حينها -كالحرب الأهلية الإسبانية، والتوترات بين بلاده والاتحاد السوفيتي، وفرنسا، والولايات المتحدة- والتي وإن جاءت رتيبة بطبيعة الحال، فقد زاد المترجمان طينته بلّة من خلال ترجمة حرفية عرجاء، ظهرت أكثر ما ظهرت في مقالة (الكتّاب والطاغوت).
إريك آرثر بلير (1903 : 1950)، أو (جورج أورويل) كما كان يُعرف في الأوساط الأدبية! إنجليزي الأصل هندي المولد، عُرف بآرائه الانتقادية للأنظمة السياسية المستبدة وللأوضاع الاجتماعية المتردية كما يظهر في توجهه الأدبي نحو كتابات (الدستوبيا) أو أدب المدينة الفاسدة. رغم هذا، طُبع أسلوبه بروح الفكاهة والفطنة والمجازية بالإضافة إلى مخيلته الشعرية. احتل المرتبة الثانية ضمن قائمة ضمت خمسين أديباً إنجليزياً في تقرير أعدته صحيفة التايمز البريطانية عام 2008.
ولمقدمة الكتاب تعريف آخر له!. فهو الذي عاش فترة طفولته وشبابه في معاناة أدت إلى نضجه المبكر فكرياً ومهنياً. ورغم رحيله المبكر نسبياً وهو في السادسة والأربعين من عمره، إلا أنه ترك إرثاً أدبياً غزيراً لا يزال رائجاً حتى الآن، أثرته رحلاته المتعددة ونظرته الواعية نحو العالم الفسيح والإنسان في عالمه الأعمق. قد تأتي فائدة ترجمة كتبه للقارئ العربي تحديداً، وهو الذي ما انفك في عالمه غافلاً عن حقه في حرية التفكير والرفض والأخذ والرد، يلوذ في انسياق أعمى مع التيار طالما يتوافق مع ثقافة القطيع السائدة في وطنه بأوجاعه وبؤسه وقصر طموحه! إن هذه المقالات تحض القارئ العربي إلى الرجوع نحو ذاته متفكراً في الخبز الذي يحصل عليه بلا كرامة، أو كما تقول المقدمة “بل لا خبز يمكن أن تعطيه السلطة من دون كرامة“.
يعرض فهرس الكتاب (Books Vs. Cigarettes) بعد المقدمة تسعة عناوين لمقالات الكتاب، أسردها تباعاً، وقد كتبها أورويل عام 1946:
- الكتب مقابل السجائر
- هراء شعري
- الكتّاب والطاغوت
- كيف بموت الفقراء
- قمع الأدب
- الثأر الشرس
- مناطق السعادة
- السياسة واللغة الإنجليزية
- كما يحلو لي
وفي متفرقات من هنا وهناك، وبالكاد، أعرض في الأسطر التالية ما علق في ذهني بعد قراءة الكتاب الذي لم يحض سوى بنجمة واحدة من رصيد انجمي الخماسي، وبنزر من اقتباس في نص قاتم (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- يقول أورويل قبل استهلال مقالاته: “أليس غريباً أن نمضي حياتنا ونحن نفكر بالأشياء التي نحب أن نفعلها ولا نستطيع”؟. في الحقيقة .. ليس غريباً، بل مأساوياً!
- توضح المقدمة موقف أورويل من المجتمعات الشمولية، والتي تبرز من خلال صفتين رئيسيتين، هما: الكذب والفصام! فبينما يستمر هذا المجتمع في الكذب من خلال تغيير الماضي حسب ما تقتضيه المصلحة في الوقت الحاضر، والذي لا بد وأن يُجمع عليه شمولياً ذلك المجتمع ذو الرأي الواحد، فإنه في الوقت ذاته “يقيم نظاماً فكرياً فصامياً للتفكير”، بحيث يصبح للسياسي أو للمؤرخ أو لعالم الاجتماع الحق في تجاهله. “كان أورويل محقاً. فالأنظمة الشمولية تعتمد على الأكاذيب لأنها هي نفسها أكاذيب، ويجب أن يقبل الفرد في النظام الشمولي بها كحقيقة -لا يجب في الحقيقة أن يصدقها- وإنما أن يقبلها كأكاذيب وباعتبارها الحقيقة الوحيدة المتاحة في الوقت نفسه”.
- لا تزال المقدمة تنقل عن أورويل موقفه الناقد للاستبداد السياسي الذي تضيع فيه إنسانية الفرد، حيث يصرّح: “أريد أن أعثر على طريقة لأصف عالماً يقيّم الناس ليس بما ينتجون وإنما بمن يكونون، والذي لا تكون فيه الكرامة حالة عارضة”.
- إن الحرية والإبداع صنوان، فمتى شُلّت الحرية قُتل الإبداع. تقول المقدمة في تأثير حجر المجتمع الشمولي على العقول، والتي قد ينتج عنها أقلاماً مرتزقة: “يكون الأدب محكوماً بالفشل إذا هلكت حرية التفكير. وهو ليس كذلك في أي بلد يحتفظ بهيكل شمولي فحسب، وإنما في أي كاتب يعتنق الشمولية أو يجد أعذاراً للاضطهاد وتزوير الحقيقة، بحيث يدمر بذلك نفسه ككاتب. وما لم تدخل التلقائية عند نقطة أو أخرى فإن الإبداع الأدبي يكون مستحيلاً، واللغة نفسها تصبح شيئاً مختلفاً كلية عما هي الآن. ربما نتعلم أن نفصل الإبداع الأدبي عن النزاهة الفكرية. في الوقت الحاضر، نعرف فقط أن الخيال مثل حيوانات برية معينة، لن يُنجب ويتناسل في الأسر”.
- في المقالة الأولى التي احتل عنوانها عنوان الكتاب، لا تظهر هواية قراءة الكتب ممتعة بالضرورة، حيث جوانبها المادية التي لا بد من تحمّلها، بل واحتسابها بدقة! يقول: “هذه الفكرة في شراء أو حتى قراءة الكتب هي هواية مكلفة وبعيدة عن متناول الشخص العادي، منتشرة لدرجة أن الأمر بات يحتاج لدراسة تفصيلية”. رغم هذا “من الصعب المقارنة بين سعر الكتب والقيمة التي يحصل عليها الفرد منها”.
- في مقالة (قمع الأدب)، وفي اجتماع لأورويل بنادي القلم الدولي، يتربع فيها المنصة أربعة أدباء، حيث يتطرق الأول إلى حرية الصحافة في الهند فقط، ويكتفي الثاني باستحسان هذه الحرية، بينما يشنّ الثالث هجوماً “على القوانين المتعلقة بالتلفظ البذيء في الأدب المنشور”، ويختم الأخير بالدفاع عن التطهير الروسي الذي أثار الحاضرين. يقول أورويل محللاً معريّاً ما جرى فيما بعد: “تمت الموافقة على الحرية الأخلاقية في مناقشة المسائل الجنسية بصراحة، تمت الموافقة عليها بشكل عام، ولكن لم يتم ذكر الحرية السياسية. انطلاقاً من هذا الملتقى الذي جمع مئات من الناس ربما كان نصفهم على صلة مباشرة بمهنة الكتابة، لم يكن هناك شخص واحد يستطيع أن يشير إلى أن حرية الصحافة إذا كانت تعني أي شيء على الإطلاق، أو تعني حرية الانتقاد والمعارضة”.
- وفي ذات المقالة، وعن عار التبعية الذي طال حتى حرية الفكر والاعتقاد فضلاً عن حرية الرأي، يقول أورويل قولاً في الصميم وكأنه يتحدث عن واقعنا: “يقوم كل شيء في هذا العصر بالتآمر على تحويل الكاتب وكذلك كل أنواع الفنون الأخرى إلى مجرد خادم وضيع يقوم بالعمل على موضوعات يكلف بها من رؤسائه ويحرم عليه التعبير عن الحقيقة الكاملة من وجهة نظره الخاصة. ولكنه في ظل الصراع ضد هذه الكارثة لا يحصل على أي دعم، حيث إنه لا يوجد أي من أصحاب الرأي الكبار سيقف إلى جانبه ويؤكد صحة موقفه”.
- أما في (مناطق السعادة)، فالقول أشد حكمة وواقعية. يقول: “بالنسبة للإنسان، سيبقى إنساناً فقط عبر الحفاظ على مناطق كبيرة من البساطة في حياته، في حين أن الميل الشديد للعديد من الاختراعات الحديثة -ولاسيما السينما والراديو والطائرات- تضعف إدراكه وتبلد فضوله، وبشكل عام تدفعه إلى أن يكون أقرب للحيوانات”. ولا أعلم ماذا سيكون موقف أورويل لو زارنا يوماً ونحن في خضم وسائل التواصل الاجتماعي، تعصف بنا التكنولوجيا عصفاً وتنقلنا في دوامة لا متناهية من تطبيق لآخر، فلا تبقي لنا من سلامنا الداخلي ولا تذر؟
وأختم بصور عن (كيف يموت الفقراء) كما جاءت في مقالته، وقد عاينها أثناء تلقيه للعلاج في مستشفى كوشين بباريس لعدة أسابيع عام 1929، كما يلي:
- عن عنجهية الأطباء ومدى احتقارهم للإنسان، يقول: “وكانت هذه تجربتي الأولى للأطباء الذين يتعاملون معك دون التحدث إليك أو بالمعنى الإنساني يقومون بالانتباه لك”.
- يعاين أحد العنجهية مريض بالكبد بارزة بطنه متضخمة مترهلة، فيرفع قميصه ويمرر أصابعه، و: “كالعادة لم يتحدث إلى مريضه ولم يبتسم له أو يقوم بإيماءة أو أي نوع من التقدير”.
- عن تكالب طلبة الطب على مريض ما لإجراء تجاربهم وكأنه أي شيء آخر دون بشر. يقول: “إلى جانب افتقار واضح إلى أي إدراك بأن المرضى كانوا كائنات بشرية”.
- وللممرضات -ملائكة الرحمة- نصيب من اللاإنسانية!. يموت أحد المرضى ليلاً متكوماً في جانب من سريره شاخصاً ببصره نحو أورويل. وفي الصباح: “وعندما وصلت الممرضات تلقين خبر وفاته دون اكتراث ثم اتجهن إلى أعمالهن”.
- قد يتم التضحية بمريض مقابل أعضائه، فقط حينما يكون معدوماً. يقول: “على الرغم من أني رأيت طالباً قُتل في عمر السادسة عشرة أو تقريباً قتلوه من خلال تجربة علاجية فاشلة، ما كانوا ليجربوها على مريض يدفع المال مقابل العلاج. أن تعيش وأنت تتذكر ذلك الأمر وتعتاد على تصديقه في لندن وهو أن بعض المرضى في المستشفيات الكبيرة يُقتلون من أجل الحصول على أعضاء تشريحية”.
- وفي مقارنة بين المستشفى الفرنسي بنظيره الإنجليزي، يقول: “فهناك الناس يموتون مثل الحيوانات ولا يكون بجانبهم أحد ولا أحد يهتم، حتى الموت لا يلاحظونه إلا في الصباح، وهذا حدث أكثر من مرة. وبالتأكيد فإنك لن ترى مثل تلك الأمور في إنجلترا، أو على الأقل لن ترى جثة تركت مكشوفة للعرض أمام المرضى الآخرين”.
- وعن المستشفيات عموماً فيما مضى، يقول: “وإذا كان لك أي إطلاع على الأدب فيما قبل أواخر القرن التاسع عشر، ستجد أن المستشفى يحظى بسمعة مثل سمعة السجن، سجن قديم الطراز يشبه القبو. المستشفى مكان للقذارة والتعذيب والموت أو نوع من غرفة الانتظار للقبر. لم يكن لشخص أكثر أو أقل فقراً أن يفكر في الذهاب إلى هذا المكان للعلاج وخاصة في الجزء المبكر من القرن الماضي، عندما كان الطب أكثر جرأة من ذي قبل دون تحقيق درجة أعلى من النجاح، كانت أعمال الدعاية بكاملها تبدو مرعبة من قبل الناس العاديين”. ويستكمل في قول مرعب: “يعتقد أن الجراحة على وجه الخصوص ليست أكثر من شكل بشع من السادية، حتى التشريح لا يتم إلا باستخدام خطاطيف الجسم مع استحضار الأرواح. منذ القرن التاسع عشر، يمكنك إيجاد الكثير من قصص الرعب المرتبطة بالأطباء والمستشفيات”.
- وبحضيض الوحشية من الوصف، يتحدث عن أولئك السفاحين ذوي المعاطف البيضاء قائلاً: “إن التأمين الصحي الوطني قد خلص جزئياً من فكرة ان المريض من الطبقة العاملة هو الفقير الذي يستحق القليل من الاهتمام. في هذا القرن كان من المعتاد بالنسبة للمرضى (المجانين) في المستشفيات الكبيرة اقتلاع أسنانهم دوا استخدام إبر التخدير!. يعالجون بالمجان، إذن لم استخدام المخدر من الأساس. هذا هو الوضع القائم حينها”.
- وعن خواطره التي عايشها وسط الموت العشوائي والمأساوي للعجائز من المرضى. يقول: “هنا فكرت بأن هذا ما ينتظرني بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاماً. هكذا يموت المحظوظون الذين عاشوا حتى بلغوا من العمر أرذله. يرغب أحدنا في الحياة، يظل أحدنا حياً ويملؤوه الخوف من الموت، ولكني الآن أظن أن تموت ميتة عنيفة خيراً لك من أن تموت طاعناً في السن”.
أخيراً .. إنه الكتاب الرابع الذي أقرأه لعام 2021، والذي لا تزال تسيطر على أجوائه فايروس يُقال في حقه أنه (صُنع في الصين)!. على أية حال، فعلى أرفف مكتبتي، رواية (مزرعة الحيوانات) ورواية (1984) للكاتب نفسه! وبينما قرأت الأولى، فالثانية على قائمة الانتظار .. علّني أجدها في الصدارة حقاً .. كما يرّوج لها.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (4) في قائمة ضمت (55) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها و ثلاثة أعدت قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن حالت ظروف الحياة دون تحقيقه .. وهو آخر كتاب اقرؤه ضمن ثلاثة في شهر مايو والذي حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب في شهر فبراير من نفس العام، ضمن (20) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
وعن عام 2021، فيُعتبر امتداد لعام 2020 الذي اجتاحه وباء عالمي ألزم الخلق البيوت في حجر صحي لا يبدو له أمد حتى اللحظة! لا عجب إذاً أن أطلب الكتاب (أون-لاين) كعوض عن معرض الكتاب الموقوف مؤقتاً.
من فعاليات الشهر: صادف شهر رمضان المبارك الذي أتوقف فيه عادة عن القراءة، إضافة إلى ما سبقه من أشهر استغرقت خلالها في عمل مكثف، وأرجئت القراءة لذلك.
تسلسل الكتاب على المدونة: 287
التعليقات