الرغبة في التلاشي! كان هو الهاجس والمصير للكاتبات .. وكأن أقدارهن تتشابه قديماً وحديثاً .. وكأن أرواحهن تستمر تتناسخ وتتعارف .. والأرواح جنود مجندة!
هل هو مجرد تماهٍ؟ أم أن تناسخ الأرواح حقيقة ماثلة في شخوص من يعودون إلى الحياة بأجزائهم كاملة أو مبعثرة؟
ليست هي ضروب من صُدف ما يجعل الكاتبات يشتركن في عزلة مبهمة يعلوهن سمت الوقار .. إذ أن وراء الأكمة ما ورائها، وخلف كل كاتبة مبدعة طوفان من حياة لا تشبهها حياة أولئك المحاطة بهم، إما لضعف أو هشاشة أو خوف أو رهاب أو ذكرى عنف أو اضطهاد أو اغتصاب …، يجعلهن يتمنينّ التلاشي من الحياة، أو في أحسن الأحوال، التلاشي في عالم الكتابة الذي يخلق لهن عالماً آخر .. وقد تثقل الوطأة عليهم فتفيض أرواحهن .. إما قدراً أو قراراً.
تتماهى الكاتبة مع مثيلاتها من الكاتبات، حين تتلمس ذلك التقاطع الكبير بينها وبين ما كان في سيرتهن من قسوة وظلم وظلمة، وأصوات تهمس في رؤوسهن، واهتياج يعتمل في أنفسهن، وبراكين تموج في خفايا أرواحهن تتأهب لحظة القرار بالانفجار .. رغم هالة الشرنقة التي احتوتهن، في هدوء ظاهري!.
تسكب الروائية المصرية الواعدة فيض من تلك الخواطر في كتابها الذي أودعته لآلئ اقتطفتها من سيرة مجموعة من الكاتبات الخالدات، تعرضها صفحة المحتويات كما يلي:
- في أثر إيمان مرسال وعنايات الزيات
- فاليري سولاناس: عندما تخذلنا الكتابة
- مي زيادة: لعنة الجمال والموهبة
- إيلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة
- نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد
- سوزان سونتاج: الهشاشة خلف جسد زجاج
- أروى صالح: الوقوف على ناصية الحلم
- رضوی عاشور: الأستاذة في التنكر
- فيرجينيا وولف: النظر صوب الحياة والموت
ومن الكتاب الذي حصد رصيد أنجمي الخماسي كاملاً وبجدارة، أقتطف ما علق منه في روحي بعد القراءة، وباقتباس في نص من سكون (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
الكاتبة إذ تختم قائمة الكاتبات، بالإنجليزية (فيرجينيا وولف)، وقد علمت مسبقاً أنها ستكون خاتمتهن، حيث ترددت، لما تزخر به الساحة الأدبية من دراسات عديدة تناولت سيرتها ورواياتها وخطاباتها بالسرد والتأمل والتحليل، لم تكن تعلم أنها حين ستكتب قصص أولئك اللاتي سبقنها جميعاً أنها ستكتب في الحقيقة قصة (فيرجينيا وولف 1882 : 1941) في كل واحدة منهن، حيث “شفافية فيرجينيا وولف منحتها الحكمة غير المحدودة، وبدت لي وكأنها جمعت كل شيء” .. فهذه اللبنانية (مي زيادة 1886 : 1941) تشبهها في حب الكتابة وفي اجتماعات صالونها الأدبي بالأدباء والكتّاب والمفكرين، وهما “تشتركان أيضاً في الأفكار المتزاحمة داخل عقليهما .. في خضوعهما فترة طويلة للعلاج النفسي. تقاسمت فيرجينيا وولف ومي زيادة الاكتئاب، وتوفيتا في نفس العام 1941” .. وهذه أيضاً الإيطالية (إيلينا فيرانتي 1943) على الناحية الأخرى، تشبهها في الشعور الملازم بالذنب، وفي حب مشاهد الطبيعة الحية، ولديها، كل الموجودات المتجسدة في الحياة تتحول إلى رموز “وكل شخص يملك جانبي الخير والشر بلا زخارف ولا تجميل” .. إنهما أيضاً تشتركان “في المكاشفة .. في القدرة على الاعتراف بالخطايا عبر الكتابة” .. تشبهها كذلك المصرية (نوال السعداوي 1931 : 2021) في روح المقاومة، “في الرغبة في بعض العزلة”، وفي الحاجة الملحّة إلى غرفة تخصّها وحدها .. إنها تشبه أيضاً الأمريكية (فاليري سولاناس 1936 : 1988) في “التشبث بالكتابة .. في التواصل عبر الكلمات .. في التمرد” وأيضاً في الصدمة النفسية التي لحقت بها جرّاء ما تعرّضت له من عنف جنسي في طفولتها من قبل أفراد عائلتها .. تشبهها كذلك المصرية الأخرى (عنايات الزيات 1936 : 1963) فيما تمتعت به من رؤية فريدة للعالم من حولها، وفي “اكتشافها أن الموت هو ما يمنح للحياة قيمة .. في رغبتها في نيل التقدير الذي تستحقه” وفي إحساسها بالمرارة التي صاحبت التشكيك في قدراتها .. وهنالك أيضاً المصرية الثالثة (إيمان مرسال 1966) التي تشبهها في القدرة على “الارتباط الوثيق بكيان «الأم» .. في تحول الحياة بعد وفاة الأم إلى شيء هلامي” سعت إلى فهمه وتطويعه، فنجحت أحياناً وفشلت أحياناً أخرى .. هي تشبه أيضاً الأمريكية الأخرى (سوزان سونتاج 1933 : 2004) “في الهشاشة المخفية داخل إطار زجاجي .. في اضطراب الهوية وعدم الاتزان” في الرغبة الجامحة للخلود ومن ثم الإخلاص للكتابة، “في النظر إلى داخل روح الإنسان، واستكشاف العالم بطريقة مختلفة” .. كم تشبه المصرية الرابعة (أروى صالح 1951 : 1997) “في تفهمها .. في إدراكها لخطوتها القادمة .. في تقبلها للنهاية، ومعرفتها بأن لا بد من وضع حد للحياة في لحظة ما، اللحظة التي تتوقف فيها عن الاستمتاع بأيّ شيء .. تتوقف فيها عن الرغبة في العيش” .. وهي تشبه المصرية الأخيرة (رضوى عاشور 1946 : 2014) في الثقل الذي يحمله قلبها “وفي شعورها بالذنب تجاه العالم”.
… وكأنهن جميعاً (فيرجينيا وولف)، أبرز أديبات القرن العشرين، التي نشأت مع والد محب للقراءة يمتلك مكتبة ضخمة، وشجعها على كتابة أول رواياتها بعد أن استكملت دراستها في الأدب العالمي، وشهدت طلائع الحركة النسوية في أوروبا وحق المرأة في التعليم. تموت والدتها فتتسبب في أول صدمة لابنتها، التي يتم إدخالها إلى مستشفى للأمراض العقلية، لمحاولاتها المتكررة للانتحار. تتزوج وتؤسس مع زوجها دار نشر تتولى إصدار أعمالها .. وفي 18 ابريل من عام 1941، يُعثر على جثتها طافية فوق نهر (أوس) وتُدفن في حديقة (مونكس هاوس) في مقاطعة ساسيكس.
لا تعتقد الكاتبة أن (فيرجينيا وولف) قد فنيت، إنما هي لا تزال “تتجسد بين الحين والآخر في أرواح الفتيات، مثل شهد، الحالمات المذعورات اللا مطمئنات .. وفي أفكار الكاتبات الحالمات، القويات، المتوحدات، المنعزلات، الراغبات في التواصل والفهم، الناظرات صوب الحياة والموت”.
وبينما تجمع الكاتبة بين (فيرجينيا وولف) وبين تلك الكاتبات الراحلات، من جانب ولّى من الحياة، تجمع بينهن وبينها في شرنقة عزلتها التي نسجت خيوطاً تشبه خيوطهن .. تفصلها عن أهلها وأصدقاءها وهم بالجوار .. وهي لا تزال تكتب وتكتب .. فتقول: “كلما تطهرت بالكتابة من مخاوفي السابقة، سكنتني مخاوف أخرى! لم تعد الأيام كما كانت، الإيقاع السريع للحياة يصيبني بكثير من التشتت، والوحدة تلتهمني من داخلي مهما أحاطني الأهل والأصدقاء”.
ختاماً أقول: إن الكاتبات يشبهن بعضهن البعض كثيراً، رغم اختلاف الأمكنة والأزمنة .. رغم اختلاف ثقافتهن وألوانهن .. والوحدة تخلق الابداع وقد تفضي للموت لمسبباتها الأولى! وهنا، في هذا الكتاب، تجد من تملك قلماً وفكراً وحساً نفسها بشكل أو بآخر .. كثيراً أو قليلاً، مع نظيراتها الأديبات الراحلات!
وتتوالى الأبدال ..
وتتوالد الأبعاد ..
خاطرة:
كتاب طويت صفحته الأخيرة ما أن ثنيت صفحته الأولى
وجدت نفسي فيه
وذكّرني بالرؤى التي تزورني تحمل معها كتباً .. أو كتباً أكتبها أو اقرؤها
إنه حقاً كتاب يشبهني!
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (28) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتهم من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، غير أن ظروف الحياة لم تسمح لي بمجابهته! وهو ثاني كتاب اقرؤه في شهر نوفمبر من بين أربعة عشر كتاب .. وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في ديسمبر عام 2020، ضمن (55) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
تسلسل الكتاب على المدونة: 306
التعليقات