… ثم بحسبة بسيطة وبنظرة تحليلية سريعة، يتبين أن العالم لا يحكمه سوى الأغبياء!
على الرغم من قصر الكتاب وقدمه الذي يعود إلى ربع قرن من إصداره، فهو يتناول ظاهرة اجتماعية تتعايش والحياة اليومية كواقع بات مألوفاً، ألا وهي سيطرة (الأغبياء) على مرافق الحياة -فضلاً عن تواجدهم أصلاً بأكثر مما يُعتقد- اجتماعياً وأكاديمياً وعلمياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً …..، وغيرها من مراكز صنع القرار، ما يجعل من تأثيراتها السلبية تطال الفرد والمجتمع على حد سواء .. فلا الفطناء العقلاء النبهاء حول العالم من أمسك بزمام الأمور، بل إنهم الجهلاء البلهاء السخفاء، والذي اتضح أن منهم من تقلّد منصب رئاسة بلد، ومنهم من أصبح استاذ جامعي أو قسيس راع، ومنهم من حصل على جائزة نوبل العالمية …، وهكذا مع تصاعد السلم الاجتماعي من بين ذوي النخبة في أي مجتمع، حتى حمّلوا الأمم جميعاً خسائرهم فوق خسائرها!
قد يُولد الإنسان غبياً، كحالة طبيعية من صنع الله أو الطبيعة الأم -حسب المعتقد- رغم التوجهات الحضارية نحو خلق حالة من المساواة بين الناس عن طريق توفير فرص أكثر جودة في الصحة والتنشئة والتعليم، مع تأكيد نتائج الأبحاث العلمية التي عني بها علماء الوراثة وعلماء الاجتماع على تساوي فئات البشر بنسب طبيعية. وكم هو لافت للنظر أن يتوزع هؤلاء في كل مجتمع بنسب ثابتة لا تختلف عن الآخر باختلاف المكان والزمان، بصرف النظر عن الفروقات الجغرافية أو الاجتماعية أو الفكرية أو المهنية، وقد وضّح المؤلف نظريته من خلال رسوم بيانية تتقاطع بين تصرفات الأفراد وأداء المجتمعات، تعتمد قانوناً تحليلياً وتخلص بنتائج منطقية، كالقانون الذي ينصّ على أن “الشخص الغبي هو أشد أنواع الأشخاص خطراً” وعلى نتيجته المنطقية بأن “الشخص الغبي أشد خطراً من قاطع الطريق” .. وذلك لأنه يتسبب في تخريب النظام الاقتصادي من حيث لا يدري إذ لا يستفيد منه، فيبطئ من سرعة التقدم ويعرقل نجاح العاملين ويمنع الناتج المحلي من الازدهار .. بينما يحرص قاطع الطريق على إبقاء النظام سليماً لضمان مصلحته وحسب.
كم هي المرات التي خسر فيها شخص ماله أو وقته أو جهده أو طاقته أو بهجته أو مزاجه أو شهيته أو صحته، حين خالط شخص آخر يتنافى واقعه مع كل ما هو منطقي ولم يعد يملك ما يخسره، فيصيب غيره بخسارة أو أكثر؟! إنه يظهر من حيث لا يجب أن يظهر، ويتسبب في مضايقات لم ينتويها، وهو لا يملك القدرة على تفسيرها، في حين يحتار الضحية بدوره في تفسيرها علمياً أو منطقياً، حتى يصبح التفسير الأكثر واقعية هو: أن الشخص الذي وقع تحت رحمته ليس سوى (غبي)!
يضع الكتاب المؤرخ الاقتصادي الإيطالي الأشهر (كارلو شيبولا 1922 : 2000)، والذي تلّقى تعليمه في جامعة كاليفورنيا الأمريكية، ثم أصبح زميلاً للأكاديمية البريطانية، وتم بيع أكثر من نصف مليون نسخة من كتابه الذي حظي بترجمة إلى ستة عشر لغة .. وهو الكتاب الذي لم يتوجّه به إلى الأغبياء بل إلى الذين يضطرون التعامل معهم أحياناً! والمؤلف يقسّم كتابه إلى تسعة فصول الذي بدأ بملاحظة ومقدمة واستهلال، وانتهى بملحق .. وقد يبدو ساخراً في أول وهلة لكنه بالقطع ليس كذلك! والفصول هي:
- الفصل الأول: القانون الأساسي الأول
- الفصل الثاني: القانون الأساسي الثاني
- الفصل الثالث: فاصل تقني
- الفصل الرابع: القانون الأساسي الثالث (والذهبي)
- الفصل الخامس: التوزع التكراري
- الفصل السادس: الغباء والسلطة
- الفصل السابع: سلطة الغباء
- الفصل الثامن: القانون الأساسي الرابع
- الفصل التاسع: التحليل الكلي والقانون الأساسي الخامس
ومن الكتاب الكلاسيكي الذي نشره المؤرخ ابتداءً عام 1976 بالإنجليزية، ثم بلغته الأصلية الإيطالية عام 1988 (Allegro ma non troppo. Con Le leggi fondamentali della stupidità umana – By: Carlo M. Cipolla)، والذي جاء في ترجمة متقنة بالعربية، أدوّن ما علق في ذهني بعد القراءة، وباقتباس في نص ذكي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد نال ثلاثة من رصيد أنجمي الخماسي:
- يسلّم المؤلف مع أرسطو على حقيقة “الإنسان حيوان اجتماعي”، ففئة المتزوجين عالمياً أكثر من العزّاب، وعلى الرغم من تفاوت كل إنسان على حدة في مدى التواصل عن غيره، إلا أن لكل نصيبه من التواصل، حتى النسّاك والانطوائيين! وهنا يبرز ما أسماه المؤلف بـ “تكلفة الفرصة” أو “المكاسب أو الخسائر الضائعة”، نتيجة لاختيار التواصل من عدمه. يقول المؤلف في (فاصل تقني): “يتمثل المغزى الأخلاقي للأمر في أن لكل شخص منا رصيداً جارياً مع الآخرين. يحقق كل منا من خلال فعله أو امتناعه عن الفعل مكسباً أو خسارة، وفي الوقت عينه يتسبب بتحقيق مكسب أو خسارة لشخص آخر”.
- واستكمالاً لمفهوم (تكلفة الفرصة) وما يرتبط بها من ربح أو خسارة، يقول المؤلف وهو يتحدث عن (القانون الأساسي الثالث): “أن البشر يندرجون ضمن أربع فئات رئيسية: المغلوبين على أمرهم، والأذكياء، وقطّاع الطرق، والأغبياء”.
- قد يحدث وأن يتصرف كل شخص من تلك الفئات الرئيسية خلاف ما جُبل عليه، كأن يتصرف شخص مغلوب على أمره بذكاء في بعض الأحيان، أو ربما كقاطع طريق في أحيان أخرى، غير أن ضعف الحيلة تسم تصرفاته في أغلب الأحوال. يقول المؤلف في (التوزع التكراري): “معظم الناس لا يتصرفون باتساق، ففي ظروف معينة يتصرف شخص ما بذكاء، وفي ظل ظروف مختلفة يتصرّف الشخص عينه كشخص مغلوب على أمره. يتمثل الاستثناء المهم الوحيد للقاعدة في الشخص الغبي الذي عادةً ما يبدي نزوعاً قوياً نحو الاتساق التام في ميادين المساعي البشرية كافة”.
- يتلخص (القانون الأساسي الرابع) في استخفاف الأذكياء بقدرة الأغبياء على إلحاق الأذى، متناسين على أن استمرار التعامل معهم في مختلف الأماكن والأوقات والظروف، هو من دون أدنى شك “خطأ فادح”. فيقول المؤلف: “خلال قرون وآلاف السنين من الزمن، في الحياة العامة كما في الحياة الخاصة، يعجز عدد لا يحصى من الأشخاص عن أخذ القانون الأساسي الرابع في الحسبان، وهذا العجز يكبّد الجنس البشري خسائر لا حصر لها”.
ملاحظة هامشية: عني، لقد وجدت الفصول الأخيرة (تحديداً من السادس إلى التاسع) الأفضل .. وأترك متعة استكشافها للقارئ.
ختاماً، لقد جاء جهد المؤلف بناءً بالفعل بل وذو بعد “للكشف عن إحدى القوى الظلامية الأشد بأساً، التي تعوق ازدهار الإنسان وسعادته .. ولمعرفتها ومن ثم لإمكانية تحييدها”.
تم نشر مقالة عن الكتاب في جريدة الشرق
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (49) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (6) ضمن قراءات شهر مايو الذي قرأت فيه (12) كتاب، منها واحداً لم أتمّه! وعن اقتنائه، فقد حصلت عليه من معرض للكتاب أقيم هذا الشهر بإحدى المدن العربية، ضمن (250) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
ومن فعاليات الشهر: كان الوقت حافلاً بإعداد قائمة الكتب التي حرصت على شرائها من المعرض، وبزيارة المعرض خلال معظم أيامه! وليت العام بطوله معرضاً للكتاب .. لكن هكذا هي الأيام السعيدة، سريعاً ما تنقضي، والأمل يتجدد مع المعارض القادمة.
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: رسائل من القرآن / نحو تجديد الفكر القومي العربي / مقالات في السياسة / أخاديد / في جو من الندم الفكري / صنعة الكتابة / الخزنة: الحب والحرية
وعلى رف (علم الاجتماع) في مكتبتي عدد يتجاوز (45) كتاب .. أذكر منها: (مقدمة ابن خلدون) – تأليف: عبدالرحمن بن محمد ابن خلدون / (منطق ابن خلدون: في ضوء حضارته وشخصيته) و (دراسة في سوسيولوجيا الإسلام) – تأليف: د. علي الوردي / (التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) و (الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية) – تأليف: د. مصطفى حجازي / (دراسات في علم الاجتماع الطبي) – تأليف: د. محمد علي / (علم اجتماع الفضائح) – تأليف: د. معن خليل العمر / (قلق السعي إلى المكانة: الشعور بالرضا أو المهانة) – تأليف: آلان دو بوتون / (الحقيقة: لمحة مختصرة عن تاريخ الهراء) – تأليف: توم فيليبس / (الشعبوية أو الخطر الداهم) – تأليف: حسن أوريد / (عبادة المشاعر) – تأليف: ميشيل لاكروا / (ما يدين به بعضنا لبعض) – تأليف: نعمت شفيق / (الغوريلا الخفية: ماذا يمكننا أن نفعل حيال الأوهام اليومية؟) – تأليف: كريستوفر تشابريس / (رأسا على عقب: مدرسة العالم بالمقلوب) – تأليف: إدواردو غاليانو / (ما أجمل العيش من دون ثقافة) – تأليف: ثيسار مولينا / (إعادة الاختراع) – تأليف: أنثوني إليوت / (اقتصاد الفقراء) – تأليف: إبهيجيت بارجي / (الحداثة المتجددة: نحو مجتمعات أكثر إنسانية) – تأليف: ألان تورين / (التفكير الحر) – تأليف: حنه ارندت / (الأصول البشرية) – تأليف: أنطوان بالزو / (عصر التطرفات) – تأليف: ايرك هوبزباوم / (السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا) – تأليف: نيكولاس كار / (الصين: مخالب التنين الناعمة) – تأليف: د. طه جزاع / (كيف تصبح إنساناً؟ ما بعد التنمية الذاتية)- تأليف: د. شريف عرفة / (سياسة الإذلال) – تأليف: أوتا فريفرت / (العنصرية كما أشرحها لابنتي) – تأليف: الطاهر بن جلون / (نساء عراقيات: وجهة نظر اجتماعية) – تأليف: لاهاي عبدالحسين / (أنثربولوجيا الحواس) – تأليف: دافيد لوبروطون / (غرق الحضارات) – تأليف: أمين معلوف / (شبكات التواصل الاجتماعي) – تأليف: روبير ريديكير / (الأنا وجحيم الآخر: ديناميات العنف في المجتمعات المتشظية) – تأليف: ثامر عباس / (العقد الاجتماعي) – تأليف: جان جاك روسو
تسلسل الكتاب على المدونة: 499
التعليقات