أوشو أو زوربا البوذي .. في أصالة حكمته المعهودة، يغوص في أعماق النفس البشرية ليستخلص من مكنونات الروح جواهرها الأنفس، غير أن هذا العوم لا يخلو من دوامات فكرية قد تتلاطم مع ما لا يقبله العقل والقلب معاً، فضلاً عن عدم واقعيتها في جوانب شتّى!.
كتاب مموه في عنوانه العريض (العلاقة الحميمة: لغز العلاقة الحامية)، غير أن عنوانه الفرعي (الثقة بالنفس وبالآخرين: رؤية لحياة جديدة) يعبّر بشكل أوضح عن فحوى موضوعه!. ليس إذاً كتاب في العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة، بل ببساطة، العلاقة الصادقة التي تربط المرء بالآخرين إلى الحد الذي يبدو فيه عارياً لا يخبأ خبيئاً. وهذا جلّ ما يخشاه المرء حيث يبدو مكشوفاً فيهرب من هكذا علاقة!. عليه، يطمح أوشو لأن يحطّم موروث الكبت والقمع والجهل والحرام الذي يخلق للمرء علاقة يبدو فيها كالغريب مع آخرين، ينبغي أن تتصف بالحميمية! تسبق هذه الخطوة خطوة، يبدأها المرء بنفسه، فينظر في أعماقه، ويستزيد ثقة، ويكون هو ذاته.
من هنا جاءت كلمة (Intimacy) الإنجليزية والمشتقة من أصلها اللاتيني بمعنى الجوهر أو الباطن .. فكلما امتلأ باطن الإنسان تناغم مع ظاهره، نجح بالتالي في إقامة تلك العلاقة الحميمية المبتغاة.
قبل البدء .. حري أوشو بالتعريف! إنه تشاندرا موهان جاين (1931 : 1990) الذي تنقل شبكة المعلومات العالمية عنه أنه ولد في الهند البريطانية ودرس الفلسفة ودرّسها في الجامعات المحلية، وتدرج من ثم في العلوم الصوفية ليُصبح (غورو) أو معلم روحاني فاقت شهرته حدود وطنه، ليصل إلى العالمية ويُلقب بـ (زوربا البوذي)، إشارة إلى توجهاته الانفتاحية رغم دعوته الروحية!. أما عن اسم شهرته الذي اختاره له مريديه، فهو مشتق من اليابانية، ذو مقطعين، حيث يعني (أو) التوقير أو الامتنان، و (شو) الوعي الواسع أو الوجود الماطر .. بحيث يصبح معنى الاسم ككل (المحيط العظيم). والطريف أن الاسم يُقرأ كما هو من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، في إشارة إلى المعراج الروحي الذي واصله المعلم وعمل فيه على توحيد الأقطاب والسمو فوق الثنائيات، في الكون المحيط.
تعرض صفحة محتويات الكتاب (Intimacy: Trusting Oneself and the Other – By: Osho) الذي حظي بثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، خمس مواضيع رئيسية، تحتوي على عدد من المواضيع الفرعية ذات الصلة، بالإضافة إلى صفحتي المقدمة والتمهيد، وصفحات مخصصة للإجابة عن بعض الأسئلة. هي:
- خطوة تلو خطوة
- العلاقة الحميمة مع الآخرين
- الورطات الأربع
- أدوات التحول
- تقنية التأمل
يزخر الكتاب من لآلئ الحكمة ما يخاطب الفطرة البشرية السليمة، يجدها القارئ تلامس روحه عن قرب وبلطف، رغم التوجس الذي قد يرافقه حين يحثه على العمل بها. ومن حبات اللؤلؤ، أغزل ما راق لي في كلمات يسيرة، كما يلي:
- لم الخوف من العلاقة الحميمية؟ هل هو العقل الباطن حيث يُبطن الإنسان فيه غير ما يُظهر؟ إن كان هذا الانفصام نتاج قيود المجتمع فما الحل سوى خلع القيد والتبسط والانفتاح بعفوية على الآخرين كما ينطق الكتاب المفتوح. لن تكون مميزاً فقد عاش ومات الكثيرين، لكنك حتماً ستكون سعيداً عندما تكون أنت أنت .. واعلم أن العلاقة العميقة مع أحدهم تخلق التقارب الوجداني! عندها يتجلى معنى السعادة كفن للحياة.
- غير أن هذا الكتاب المفتوح يحتاج أن يضم بعض الفصول المكتوبة بحبر سري، يحافظ عليه المرء ليصلي ويستدفئ ويستقر في حميمية خاصة.
- في رحلة البحث عن الذات، يحتاج المرء أن يهجر العالم الخارجي ليغوص في باطنه حيث سيبحر في الظلام أولاً، لكنه سرعان ما سيتبدد لتشرق أعماقه وينطلق الحدس في رحلة ملؤها البصيرة والاستدلال والثراء الروحي .. وهذا ما يُطلق عليه (العين الثالثة) في علوم الماورائيات!.
- للعبودية هنا معنى آخر! حيث يكون المرء محصول لزرع الآخرين .. فهو رائع أو بليد أو شجاع أو وضيع كما يرونه، فيتضارب في داخله عندما يأخذ بالتعمق، لينكر ذاته في نهاية الأمر. ينبغي لمثل هذا الموروث أن يسقط ليكون المرء هو ذاته .. باطنه كظاهره! وهذا من شأنه أن يأتي (بالتوحد) حسب تعبير الفيلسوف.
- الثقة تعني الاستقلالية، وهذا أخشى ما يخشاه المجتمع، إذ لكي تتحقق العبودية لابد من خلق أفراد آليين يتناسخون بالتقليد الأعمى! هنا تبرز الاتكالية والنفاق والنمطية، ويُقتل كل مشروع معرفي مستقل وصادق في مهده.
- لا تمنع العفوية الاحتفاظ بالخصوصية، فالظاهر عام والباطن خاص، وحين يُشاع باطن المرء للعامة يصبح وكأنه قد خسر هويته! قد يؤدي هذا إلى الانتحار في أسوأ الحالات كما تفاجئنا أخبار المشاهير بين الفينة والأخرى.
- كدفاع أمني سيكولوجي، يصنع الإنسان حوله سياجاً يحميه من أخطار الناس والحياة، وما علم أن الحياة تستحيل العيش هكذا .. وأن الأموات هم فقط المحميون هكذا.
- تؤثر العينين بنسبة 80% في حياة المرء، تأتي بعدها بقية الحواس! هذا ما أكده العلم الحديث ومن قبله أرسطو في كتابه (الميتافيزيقيا). غير أن الحواس ليست تراتبية التأثير في حقيقتها، فاللمس مثلاً يمنح في الظلام ما لا يمنحه في النور .. كما البذرة، لا تُنبت وهي ملقاة على وجه التربة ينظر إليها الجميع، بل تُزهر بعظمة عندما تُزرع عميقاً في “رحم الأرض”.
- إنه لمن دواعي العجب أن يكون في مقدرة المرء الشعور بالسعادة من غير سبب سوى الجلوس والاستمتاع بالهدوء والحبور. ليس بمجنون! بل هكذا يكون السعيد عندما تنبع سعادته من ذاته.
- تعرّي القيم الزائفة ازدواجية المجتمع، والتي قد تكون خُلقت لخدمة ازدواجيته! فنرى تبعثر القيم بين الضعيف والقوي والسيد والعبد والزوج والزوجة .. حيث تتلبس الطاعة العمياء الزوجة تجاه زوجها في عماء ناجم عن خوف لا عن حب، لتمضي حياتها وتنتهي بالحرق حية مع رفاته، في حين استحالة مثل هذا الفعل عند زوجها. كلا! فالحرية وليدة الحب، والعبودية أصلها الطاعة! ما أشبه هذا بوضع المرأة في مجتمع يعتنق هذا المفهوم كقيمة ذات شرعية مقدّسة!.
- لكل روح تسكن الأرض ما يقابلها، لكن تحول الأعراف والمحرمات والقوانين دون تواصلهما .. يسود التوتر حتى يلتقيا توأم الروح حين يجذب تناغم الروح قطبيهما، فلا يحدّه جمال أنف وحُسن محيا ورهافة قد.
رغم ما تقدم، وكما ألمحت في البداية، يثير أوشو شيء من الجدل في تعاطيه مع أمور النفس والحياة، الأمر الذي قد يؤخذ على فلسفته، من وجهة نظري .. أسرد منها على سبيل المثال، الآتي:
- في موضوع (كن على حقيقتك)، ينصح بعدم ارتداء قناعاً.. فلا تبتسم عندما تكون غاضباً، بل اغضب وإن كانت مجازفة! تحمل النصيحة شيء من الصحة في عدم التزييف، غير أن التعبير عن الغضب تحديداً ينبغي أن يحدّه حد من اللطف والتروي والحكمة، وإلا جاء بما لا يُحمد عقباه.
- يستمر فيشبّه الإنسان بالنهر الجاري في مزاجيته وتقلبه، ويرى أن هذه الطبيعة تتعارض مع (فكرة الثبات)، حيث ينبغي على الإنسان المنغمس في حزنه أن يضحك ملئ فمه بمجرد أن يصادف أمراً مفرحاً، فكل لحظة هي “حقيقة قائمة بحد ذاتها” ولا تتصل بلحظة سابقة أو لاحقة عليها. يقول قوله هذا ويعلم أن صفة (المجنون) أو (الطفل) قد تلحق بالإنسان إن تصرف على هذا النحو.
- يروي قصة حكيم بصق أحد الغاضبين في وجهه فلم ينفعل، غير أنه لم يسامحه حين جاءه معتذراً في اليوم التالي، مبرراً ردة فعله هذه بأن مياه النهر قد تجددت .. فلست أنت الآن من بصق بالأمس، ولست أنا المبصوق عليه في هذه اللحظة. قد تتجلى قيمة التسامح في هذه الحادثة، غير أن انسلاخ المرء من جلده وما يليه من مشاعر وأحاسيس وانفعالات بين غمضة عين وانتباهة، تحمل مزيج من معاني الغفلة والدونية.
- لا حاجة للتطوير .. إذ لا مستقبل لحظة أن يقبل المرء نفسه على ما هو عليه، فيتساوى الموت والحياة والحزن والفرح والوحدة والصحبة .. وإن قبول النفس هو قبول للوجود، حيث يصبح لا شيء ذو معنى سوى الاحتفال والبهجة. فالزهرة المسكينة تتراقص مع الريح وتمرح مع الفراشات وتستدفئ بالشمس وتغني للغيوم “وتحب وتحب وتحب” وليس في أجندتها خطة للتحسين. كم هو مستهجن هذا المنطق حين يتحول الإنسان إلى (ثور لاه في برسيمه) .. رغم أن عنوان الموضوع هو: أدوات التحول.
- تحت نفس الموضوع، لا يستغرب أوشو من بؤس الناس في سعيهم نحو ما يجب أن يكونوا عليه، ويؤكد من خلال مشاهداته المتبصّرة أن “يشعر الناس بالسعادة عندما يكونوا بؤساء، وينزعجون عندما يكونوا سعداء”.
- يتزوج الحكيم من المرأة القبيحة لضمان صدقها واستحالة خيانتها واستمرارية لطفها وطاعتها، فمن وجهة نظره “الأشخاص الجميلون لا يستأهلون الثقة”. يُعجبني منطق الفيلسوف .. عليه، وقد رفض ازدواجية المجتمع من ذي قبل، يرتقي طموح المرأة الجميلة الحكيمة إلى (الزوج القبيح) كصفقة عمر.
- في موضوع (كن منفتحاً) يتجمع كم من الهراء الفكري المنافي لفطرة الإنسان السوية لا مجال لسرده. قد يكون هذا حافزاً إيجابياً (على طريقة أوشو) لقراءة الموضوع.
ومع كامل الاحترام لحقوق النشر، أرى أنه من الجميل اقتطاف بعض من زهرات الكتاب .. فمن أراد القراءة فسيُقبل، أو حسبه من الكتاب ما يلي:
- في التمهيد لموضوع الكتاب، يقول الفيلسوف: “إن العلاقة الحميمة ببساطة تعني أن أبواب القلب مشرعة على مصاريعها لك، وهي ترحب بك لتدخل وتكون ضيفه، لكن ذلك ممكن في حالة واحدة فقط: إن كان قلبك خالياً من الكبت الجنسي، وقلباً لا يغلي بشتى أنواع التحريمات”
- وفي الأصالة يلّمح قائلاً: “لو أن الله أراد ألا يبكي الرجل، لما كان خلق له غدداً للدموع” ليستطرد محذّراً: “تذكر أنك إذا لم تستطع أن تبكي من صميم قلبك فلن تستطيع أن تضحك”.
- وحتى يكون المرء حقيقياً، يحرضّه بقوله: “إن الشخص الورع هو الذي يخرج من هذا القارب ويجازف بحياته قائلاً: فإما أن أكون صادقاً وحقيقياً أو لا أكون، لأني لن أقبل بالتزييف”، ويستمر في تحريضه ليقول: “جازف بكل شيء من أجل الحقيقة، ولا تجازف بالحقيقة من أجل أي شيء آخر”.
- في حديثه عن (الملاكمة الوهمية) يحاول إفاقة البائس بقوله: “الظلام ليس مادة بل هو مستتر! إنه مجرد غياب وليس حضور .. إنه غياب للنور .. أضئ النور وسوف يختفي الظلام”.
كعادة عيني الفاحصة أثناء قراءة السطور وما بينها، التقطت عدداً من الأخطاء المطبعية، منها: فلا تستأ: فلا تستاء / مجادفة: مجازفة / تزهر العزوبة: العذوبة / لا عزوبة: عذوبة.
في عجالة -وعلى سبيل النقد الأدبي- فإن هذا الكتاب الجدلي:
- سليم اللغة وواضح في مفرداته.
- بسيط في ترجمته ويحمل المعنى مباشرة.
- متناغم الإيقاع في سرد أفكاره حول الموضوعات المختلفة على طول الكتاب.
- مثير في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، ومحفز لنظرته التحليلية داخلياً نحو باطن نفسه، وخارجياً مع الآخرين والعالم حوله.
- لطيف الخيال في إيراد بعض الأمثلة لتوضيح فكرته، كقصة الحكيم والرجل الغاضب، الأستاذ الجامعي ومشيته الأنثوية، الملا نصر الدين وزوجته المريضة، شهرة مارلين مونرو وانتحارها المفاجئ، قنبلة هيروشيما النووية والجندي المطيع.
وعلى الرغم من احتواء مكتبتي على إصدارات كثيرة للمعلم أوشو، فقد حصلت على هذا الكتاب تحديداً ضمن مجموعة متكاملة، رشّحها بقوة البائع في دار النشر، ومعظمها جاءت بتقديم من (مريم نور) الخبيرة في علم الماكروبايوتيك .. قرأتها بأكملها، هي: الشجاعة / الفهم / الإبداع / النضج: عودة الإنسان إلى ذاته / الحرية: شجاعتك أن تكون كما أنت / الحدس: أبعد من أي حس
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (39) في قائمة ضمت (105) كتاب قرأتهم عام 2020 تتضمن تسعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وهو ثامن كتاب اقرأه في شهر يونيو من بين واحد وعشرين كتاب، وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2018 ضمن (140) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
لقد كان عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
في هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (يونيو)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“كان شهراً حافلاً بالقراءة وإعداد مراجعات الكتب المقروءة .. مع استمرار الحجر الصحي بطبيعة الحال”.
من فعاليات الشهر: كنت قد استغرقت في القراءة بشكل مهووس خلال النصف الأول من هذا العام دون أي فاصل يُذكر، رغم الوقت الذي استقطعه عادة بعد قراءة كل كتاب من أجل تدوين مراجعة عنه! ما حدث في تلك الفترة هو تراكم الكتب التي أنهيت قراءتها من غير تدوين، حتى قررت على مضض بتعطيل القراءة لصالح التدوين .. وأقول “على مضض” لأن القراءة المسترسلة من غير انقطاع بالنسبة لي هي أشبه بالحلم الجميل الذي لا أودّ أن أستفيق منه، لكنني تمكّنت من تخصيص وقتاً جيداً في نهاية هذا الشهر لتأدية عمل الأمس الذي أجلّته للغد.
تسلسل الكتاب على المدونة: 219
التعليقات