على غرار مفكري عصر التنوير، آمن فرويد إيمان قطعي بالعقل كقوة قادرة على حل معضلات الإنسان ضمن تعقيدات الحياة التي لا تنتهي، وكسلاح لا يُهزم في محاربة الأوهام والجهل والخرافة والتي اعتقد بأن الأديان بشرائعها تنطوي تحت سلطتها القاهرة، غير أن العقل لديه يستقل عن أية قيود، ويصبح بطبيعة الحال القوة المركزية الفاعلة والوحيدة في مواجهة الحياة واستمراريتها. يولّي فرويد بحثه هذا أهمية خاصة لا سيما من خلال تطبيق أسس التحليل النفسي على إحدى مسائل الوجود الإنساني وقد اعتبرها مجازفة جريئة في حد ذاتها، حيث كان يرى أن هناك ثمة تشابه كبير بين عصاب الأفكار القهرية والشعائر الدينية، فيعتقد وعلى حد قوله أن: “عصاب القهر هو دين خاص مشوه، وأن الدين هو عصاب قهري عام”.
ففي بحثه هذا يقدم عرض تاريخي انثربولوجي لعدد من القبائل البدائية المنتشرة في مناطق متفرقة من العالم، مع توضيح مدى تأثير ما يُسمى بـ (الطوطم) بمعتقداته وتشريعاته وقوانينه، على المعاش اليومي لأفراد تلك القبائل، كاللغة المتداولة، والعلاقات الأسرية، والزواج، والحروب، والعلاقات الاجتماعية مع أفراد القبائل الأخرى. إن كلمة الطوطم (Totem) في حد ذاتها هي كلمة معرّبة، وترمز إلى كل معبود يحمل صفة قدسية ويمثل الآلهة العليا والحامية لأفراد القبيلة البدائية، وهو يتخذ أشكالاً عدة، قد تتمثل في حيوان أو نبات أو صنم أو فكرة أو ظاهرة طبيعية، بحيث يعتقد جميع أفراد القبيلة بأن أصلهم ينحدر منه مباشرة.
إنه إذاً سيجموند فرويد (1856 – 1939)، طبيب الأعصاب النمساوي اليهودي والرائد في علم التحليل النفسي، والذي يُعد كمؤسس لعلم النفس الحديث. عُرف بنظرياته التي اختصت بطبقة اللاوعي أو اللاشعور، كمنطقة سيكولوجية غائرة تخفي أكثر مما تُظهر، وتفسّر الكثير من السلوك البشري السوي والشاذ معاً، وقد عدّ الأحلام بمثابة مصدر موثوق عن رغبات النفس الحقيقية المتوارية في اللاوعي. وبعد صراع طويل مع مرض سرطان الفم، يموت فرويد في المملكة المتحدة عن جرعة قاتلة من المورفين طلبها من طبيبه المعالج.
يتعرّض فرويد في تأكيده على العقل كأداة متفرّدة في منح الإنسان معنى لحياته وفي تبديد الأوهام والاستقلال عن أي قوى عليا متسلّطة، من خلال أربع مقالات، هي:
- المقالة الأولى: تهيّب سفاح القربى
- المقالة الثانية: التابو وازدواجية الانفعالات العاطفية
- المقالة الثالثة: الأرواحية والسحر وطغيان الأفكار
- المقالة الرابعة: العودة الطفولية للطوطمية
وللوقوف على مفهوم التابو والطوطمية كما جاء بها فرويد في كتابه (Totem and Taboo – By: Sigmund Freud) الذي استحق نجمتين فقط من رصيد أنجمي الخماسي، ألخص في متفرقات شيء من آرائه، وباقتباس في نص عتيق (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- يتقاطع مفهوم الطوطمية مع الأديان في الاعتقاد بوجود قوى كونية مهيبة تستوجب التسليم والتقيا والتعبّد، تشكل الملاذ الروحي للفرد ولا يؤمن عواقب نقمتها. كما أنها تحظى بنفس منزلة القداسة التي تحظى بها الأعراف الاجتماعية والمحظورات السائدة في أي مجتمع، من ناحية وجوب الانصياع الأعمى لها. وكنتيجة، اعتقد الفرد البدائي بضرورة سنّ قائمة من المحرمات تكون بمثابة تشريعات تقيّد أفعال ما وترسخ أفكار ما، وتصبّ بأكملها في تقديس الطوطم المعبود. يقول فرويد في كتابه «حياتي والتحليل النفسي» عن هذا المفهوم: “وإني لأعلق أهمية كبرى على مشاركتي في سيكولوجيا الدين، تلك التي استهلت عام 1907 بعقد تشابه ملحوظ بين عصاب الأفعال القهرية وبين الطقوس والشعائر الدينية. وقبل أن أفهم الصلات العميقة، وصفت عصاب القهر بأنه دين خاص مشوه، والدين بأنه عصاب قهري عام. ثم أدت بي ملاحظات يونغ الصريحة عام 1912 في المشابهات القوية بين منتجات العصابيين النفسية وبين منتجات الشعوب البدائية إلى توجيه انتباهي إلى ذلك الموضوع. فبينت في أربع رسائل، جمعت في كتاب بعنوان «الطوطم والتابو»، أن الفزع من الاتصال بالمحارم أبرز لدى الأجناس البدائية منه لدى المتمدنية، وأنه أدى إلى اتخاذ إجراءات خاصة للوقاية منه”. يستمر فرويد ليوضح أن ما اجتذبه في الطوطمية هو في كونه “أول أساليب النظام الاجتماعي في القبائل البدائية .. أسلوب اتحدت فيه بدايات النظام الاجتماعي بدين ساذج وسيطرة صارمة لعدد ضئيل من نواهي التابو. في ذلك النظام، الكائن المقدس هو دائماً أبدأ حيوان، تدّعي القبيلة أنها انحدرت منه”. بل وذهب من خلال عدد من الدلائل إلى أن كل جنس مهما بلغت درجة رقيه فقد مرّ لا محالة بطور الطوطمية!.
- وهو في حديثه عن القوى المتسلّطة، لا يصنّف فرويد الطقوس التي اتخذت طابعاً روحانياً لدى الإنسان البدائي كدين، بل كمنظومة شروط أولية تأسست بموجبها الأديان والأساطير معاً، وباعتبارها أولى النظريات التي وضعها الإنسان في سعيه نحو فهم الحياة، فقد كان هدفه الأول لا إشباع فضول المعرفة لديه بل لسد حاجته الملّحة في السيطرة على الظروف المحيطة به. وهو في هذا التحدي ضمن محيط تحفّ به الأخطار وتتفاقم صور عجزه في مواجهتها، عمد إلى إضفاء قوى خارقة لمعتقده تمكّن من التحكم بتأثيراته عن طريق ممارسة السحر والدجل والشعوذة. وفي هذا الهدف المتمّثل في “محو الرغبة من الوجود”، يقابل فرويد بين تفكير الإنسان البدائي الذي تسيطر عليه الخرافة، وبين تفكير الإنسان العصابي الحديث الذي تتسلّط عليه عادات يجد نفسه مكرهاً حيالها .. فيما أطلق عليه بحالة “طغيان الأفكار”، التي تخلص إلى تكريس فكرة “العقاب الذاتي” بين شعائر بدائية وتصرّفات قهرية .. بين واقع فعلي لا بد من مواجهته وواقع نفسي مفروض إيحائياً.
- وفي محاولة لتأريخ نشأة الطوطمية، يعزو فرويد خوف الطفل من الحيوانات إلى الخوف من الأب في تشبيه مبطن لعقدة أوديب، وقد أخذ بفرضية دارون، حيث يرى أن القبيلة الواحدة كان يسيطر عليها رجل أوحد قوي طاغٍ مستأثر بالنساء، الأمر الذي دعاه إلى قتل أبنائه أو نفيهم خشية منافسته، إلا أن الأبناء تمكنوا من قتل أبيهم وافتراسه من خلال مؤامرة حيكت ضده، كعدو ومثل أعلى في نفس الوقت. ومن هنا، تم سنّ شريعة التضحية بالطوطم المقدس في كل عام، والنياح عليه من خلال طقوس خاصة يمارسها الجميع. أما الزواج من الغريبات، فقد جاء بعد أن اتخذ الأبناء قراراً بعدم تملّك النساء، وقد كنّ أحد أسباب تضحية الأبناء بأبيهم.
- يعتقد فرويد كذلك بأن جهل الشعوب البدائية بنتاج عملية التلقيح والإخصاب بين الجنسين أدى إلى تولية المرأة مسئولية الحمل الكاملة، بل وإلى تأليه المرأة في بعض الأحيان، الأمر الذي حثّها على تسمية طفلها بذلك الطوطم في ذلك المكان الذي شهد بوادر حملها. ومن ناحية عاطفية مختلفة، ترتبط فكرة التابو بالوجدان، إذ يحرّم الضمير على الفرد الإتيان بأفعال معينة خاطبت اللاشعور لديه حيناً ما وأثارت لذة وقت ممارستها، كعبث الطفل بأعضائه التناسلية، بحيث تصبح من جملة المحرمات عند كبره، وتثير لديه الكثير من المخاوف وتوّلد شعور ثقيل بتأنيب الضمير حيالها.
- تزدوج العاطفة مرة أخرى عند الشعوب البدائية، وقت الحروب وتحديداً عند الانتصار، إذ يؤتى برؤوس الأعداء، لا للتمثيل بها بل لتكريمها وذرف الدموع عليها، إذ كانت الفرصة مواتية لهؤلاء المقتولين بأن يكونوا أصدقاء للقبيلة لا أعداءهم، الموقف الذي اختاروه بمحض ارادتهم وانتهى بمقتلهم .. فيكيل القاتل اللوم للقتيل!.
- ومن ناحية اجتماعية، تلتزم القبائل البدائية بطقوس غريبة تعكس سيطرة التابو كنظام اجتماعي راسخ، تظهر على سبيل المثال في: تحريم الزواج من أبناء نفس العشيرة، التضحية بالطوطم كنوع من التطهير، الامتناع عن ذكر اسم الميت أو استخدام حاجياته، تلبّس الروح الشريرة لجثث الموتى لا سيما المتعفنة منها. لا يتوقف الحد عند فرويد أمام مجرد تصوّر تلك الأرواح الشريرة التي يتحول إليها أفراد القبائل بعد موتهم، بل يتتبعه بسؤال استيضاحي، حيث: “يثير الزعم القائل إن المتوفين يتحولون بعد الموت إلى أرواح شريرة تساؤلاً آخر: ما الذي جعل البدائيين يعزون لأمواتهم الغالين هذا التحول بالعواطف تجاههم؟ لماذا جعلوا منهم أرواحاً شريرة؟ يظن فستر مارك أنه من السهل الإجابة على هذا السؤال: بما أن الموت غالباً ما يعتبر أسوأ مصيبة يمكن أن تصيب الإنسان، فإن المرء يعتقد أن الراحلين غير راضين البتة عن مصيرهم، وحسب فهم الشعوب البدائية لا يموت المرء إلا بالقتل، سواء بالعنف أو من خلال السحر، لذلك ينظر المرء إلى الروح على أنها تنشد الانتقام وأنها قابلة للإثارة، ويتوهم أنها تحسد الأحياء وتتشوق إلى الاجتماع بالأقرباء القدامى. لذلك، من المفهوم أنها تصبو إلى إماتتهم عن طريق الأمراض كي لا تتحد معهم”.
ختاماً، يبقى هذا الكتاب رغم التحديث الذي طرأ على مادته في الوقت الحاضر، مرجعاً تاريخياً هاماً لا سيما من ناحية توثيقه عن طريق أولئك الذين تصدروا سدّة العلم والفكر في أزمنة مضت، ونجحوا موضوعياً في تتبع تطوّر موقف البشرية من الموت كأقصى صورة تعبيرية عن العجز الإنساني، ما يؤكد على ضرورة تبنّي العقل في مواجهة أمور الدين والدنيا وكافة ظروف الحياة، وفي عصر التنوير كما في عصر الظلام.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (43) في قائمة احتوت على (52) كتاب قرأتهم عام 2018 تتضمن كتابين لم أتمّ قراءتهما، وهو سادس كتاب اقرؤه في شهر نوفمبر من بين سبعة كتب، والذي حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2017 ضمن (55) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض. الطريف أنني علمت بوجود إصدار آخر للكتاب بعنوان (الطوطم والحرام) وبترجمة جورج طرابيشي .. يراودني شعور باقتنائه وتجديد معلوماتي عن الموضوع بقلم وتصوّر مختلفين!
ملاحظة تحتها خط: وفي صحيفة عربية كنت قد اتفقت معها على نشر مقالاتي فيها، فوجئت برفض نشر مقالة هذا الكتاب تحديداً، بحجة أنه يمسّ جانب من العقيدة الدينية حسب رأي المشرف على الصحيفة -وقد كان من أهل العمائم- الأمر الذي أثار غضب البروفيسور المسئول عن نشر مقالاتي آنذاك، والذي نصحني بالابتعاد عن كل ما يمس الدين من قريب أو بعيد، وذلك لتجنّب شطحات المشرف في المرات القادمة .. متبوعاً بدعاء “يرحم والديك”.
رد البروفيسور كما وصلني نصّاً:
“عزيزي مها، مراجعة الكتاب حذفت في اللحظة الأخيرة من تصميم الجريدة بأمر ××××× لخشيته من ان يمس مقدساً !! حسبنا الله ونعم الوكيل. إن كان لديك مراجعة لكتاب آخر ابعثيها بسرعة لنشرها يوم الخميس. ابتعدي عن اي شيء يقترب من الدين والمقدسات يرحم والديك”.
جانب من ردي له نصّاً:
“مع أن فرويد يهودي ابن يهود وفي كتابه هذا لم يبحث سوى في المعتقدات البدائية للقبائل البائدة، وأصنام كفار قريش أقرب تشبيه للطوطم، فأي مقدّس سيمسّ؟ … ان شاء الله الكتب القادمة رح تكون حسب المعايير وبعيدة عن أي شبهة دين أو معتقد، وخاطر ××××× طيب … حاسة إن ××××× (غاضب عليّ) هاهاهاهاهاهاااا”.
من فعاليات الشهر: لا شيء سوى استغلال الوقت الضائع من العام لقراءة المزيد وتعويض ما فات بسبب التسويف!
تسلسل الكتاب على المدونة: 104
التعليقات