لدى (سيدهارتا جاوتاما) أو (بوذا) كما يُعرف في التاريخ الإنساني، يُصبح التجرد من الأهواء الدنيوية بغرائزها الحسية، والترقي عبر درجات السمو الأخلاقي بدربة وصبر وحكمة، بل والذهاب إلى أقصى حدود التخلي حدّ الفناء، هو الهدف الأسمى .. الهدف الذي يتمثّل في صورته النهائية بلوغ النيرفانا أو السعادة الأبدية أو التحرر النهائي من المعاناة! لذا، ليس الإنسان لدى بوذا “المستنير”، وعاء جسدي ذو شهوات وملذات ومتع، وإدراك يطفو على السطح، ووعي زائف تشكّل من غير تحديات وصعوبات وتجارب حقيقية وفهم أعمق للحياة .. إنما هو يمضي في رحلة كفاح روحية نحو الاستنارة الكاملة وتحصيل الحكمة المطلقة وتحقق النقاء التام للعقل!
إنه (سيدهارتا) المولود لعائلة (جاوتاما) .. لأب كان ملكاً على بلدة صغيرة قرب سفوح جبال الهيملايا، وقد كان يعدّه ليخلفه كوريث للعرش، فنشأ في حياة الدعة والترف .. حتى إذا ما تنسّم طلائع الرجولة، واجه “معنى معاناة الحياة في لقاء سبب له اضطراباً عميقاً، وكانت نتيجته أن فقد كل اهتمام بمتع ومزايا العرش والحكم”. وحين بلغ التاسعة والعشرين من عمره، هرب من ليله شطر الغابة، موليّاً ظهره لمدينة عائلته الملكية، باحثاً عن حياة الزهد التي رأى أنها سبيله في الخلاص من المعاناة .. وخلال سنوات ست، جرّب فيها طرق تأملية مختلفة “وأخضع نفسه لأنواع متطرفة من التقشف والزهد” لم ينل منها شيئاً ولم تقرّبه من هدفه، لكنه “وأخيراً، في عمر الخامسة والثلاثين، وبينما كان جالساً في حالة تأمل عميق تحت شجرة في «جايا»، بلغ الاستنارة الأسمى” وأصبح (بوذا) بالمعنى الحقيقي للاسم، “أي المستنير”. ثم “منذ تلك اللحظة، وعلى مدى خمسة وأربعين عاماً” يتنقّل بوذا في مناطق شمال الهند ليعلن عن الحقائق التي توصّل إليها، ويؤسس نظام الرهبنة، ويواصل نشر رسالته .. حتى إذا بلغ التسعين “وبعد رحلة حياة طويلة ومثمرة” يرحل بسلام “في بلدة صغيرة تابعة لإقليم «كوشينجار»، مُحاطاً بعدد غفير من المريدين والأتباع”.
لهذا، ليس بوذا لدى أتباعه المخلصين “إلها، ولا تجسيداً بشرياً لكيان إلهي، ولا نبياً يحمل رسالة قائمة على وحي إلهي .. بل كان إنساناً استطاع بكدحه وذكائه أن يبلغ أسمى مكانة روحية يمكن لإنسان أن يرتقيها”. أما عن دوره بالنسبة للإنسانية “فهو دور المعلم؛ معلم للعالم كله، يوجه الآخرين بدافع العطف والشفقة نحو سبيل النيرفانا .. أي التحرر النهائي من المعاناة”.
إن الدامابادا (The Dhammapada: The Buddha’s path of wisdom) هي النص الأكثر إجلالاً بين النصوص البوذية، بل إنها تُصنف ضمن أشهر الكلاسيكيات الدينية حول العالم في أربعين مجلداً .. وبينما تأتي “الأبيات المضيئة من الحكمة الصافية” كاستجابة لمواقف تحدّث عنها بوذا وهو في القرن السادس قبل الميلاد، فقد ظهرت أول مدونة لها بشروحاتها في القرن الخامس بعد الميلاد .. وهي أبيات فُصلّت في ست وعشرين فصلاً إرشادياً، يجمعها مغزى محدد، وهي: “ثنائيات، اليقظة، العقل، الأزهار، الأحمق، الحكيم، الآرهات أو السيد الكامل، الآلاف، الشر، العنف، الشيخوخة، النفس، العالم، البوذا، السعادة، الهوى، الغضب، الدنس، العدل، السبيل، متفرقات، الجحيم، الفيل، الرغبة، الراهب، الرجل المقدس” .. وهي الفصول التي بدورها، تحدّها أربع مستويات رئيسية، لكل مستوى منها هدف مضمر، وهي: “مصلحة ورخاء الإنسان هنا والآن. ولادة أخرى موفقة ومبشّرة في الحياة التالية. تحقيق الخير المطلق. السبيل والثمرة”.
تتقاطع تعاليم الداما لدى بوذا “المستيقظ” كثيراً مع كل دين يحضّ على الفضائل وينبذ الرذائل، والذي بهما يتحدد مصير الإنسان الأخروي! فمع (الكارما السلبية)، يتردّى صاحبها في جحيم السامسارا أو في تناسخ الروح، حيث تكرار الحياة والممات في حيوات مادية أشدّ انحطاطاً .. في حين يتفكك صاحب (الكارما الإيجابية) من أثقال جسده الطيني وحمولة الحياة المادية، حيث يترقى في جنان سماوية ينعم فيها بالسمو الروحي.
ومن الأسس الجوهرية لهذه التعاليم المقدسة التي يتطلب ترسيخها في الذهن والروح الترديد والتكرار، كالتوكيدات الإيجابية في علوم الطاقة .. أدوّن ما علق في روحي بعد القراءة، وباقتباس في نص سماوي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) إضافة إلى ما سبق من اقتباسات .. وقد استقطعت أربعاً من رصيد أنجمي الخماسي:
- في بيت (24) وفي الفصل الثاني (اليقظة) التي هي سبيل للتغلب على الموت، فإن الذي تحلّى بهذه الفضيلة: “مجده في ازدهار لا ينقطع .. المرء ذو الهمة والفطنة، صافي العقل نقي المسلك، ذو الصلاح واليقظة، وزمام نفسه بين يديه”.
- في بيت (50) وفي الفصل الرابع (الأزهار)، على الإنسان إصلاح نفسه وليكف عن ملاحقة الآخرين: “لا يبحثن أحد عن عيوب الآخرين، ولا ينظرن أحد في هفوات الآخرين وأعمالهم .. لكن لينظر كل في أعماله، ما انصرف إليه وما انصرف عنه”. وعن الزهرة كرمز لجمال حقيقي وغير حقيقي في البيتين التاليين: “مثل الزهرة بديعة الجمال ولكن بلا عبير أو رحيق، تكون عقيمة الكلمات الطيبة لمن يقولها ولا يعمل بها” و “مثل الزهرة بديعة الجمال ولكن مفعمة بالعبير والرحيق، تكون مثمرة الكلمات الطيبة لمن يقولها ولا يعمل بها “.
- في بيت (125) وفي الفصل التاسع (الشر)، يقع الظالم في الحفرة التي حفرها للبريء: “مثل الغبار الناعم يذرى بعكس اتجاه الريح، ينقلب الشر على وجه الأحمق كلما أساء إلى الرجل النقي المسالم البريء”.
- في بيت (146) وفي الفصل الحادي عشر (الشيخوخة)، يُصبح من الحماقة المضي في الظلام بسرور: “إذا كان هذا العالم في احتراق دائم، فعلام الضحك والمرح؟ إذا كنت مكّفناً بالظلام فلم لا تلتمس النور؟”.
- في بيت (168) وفي الفصل الثالث عشر (العالم)، حثّ على النهوض للعمل الأخروي ونبذ الدنيا: “انهض اطرح عنك غفلتك! عش حياة الصلاح والحق، فهي الحياة السعيدة في هذا العالم، وفي العالم الذي يليه” .. وكذلك يوصيه في البيت الذي يليه “انبذ حياة الخسة والدنايا”.
- في بيت (184) وفي الفصل الرابع عشر (البوذا)، تبدو العبرة بالخواتيم: “الصبر الجميل أعلى مراتب الزهد، والنيرفانا هي الذروة المطلقة .. هكذا يقول كل بوذا. ليس راهباً حقيقياً من يؤذي أخاه، وليس زاهداً حقيقياً من يقهر الآخرين”.
- في بيت (215) وفي الفصل السادس عشر (الهوى)، نهي عن التمتع والهوى والتوق والشهوة: “من الشهوة ينشأ الحزن، ومن الشهوة ينشأ الخوف. أما من تحرروا تماماً من الشهوة، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.
- في بيت (272) وفي الفصل التاسع عشر (العدل)، تنبيه! إذ لا ينبغي إطلاق الأحكام جزافاً ولا التحدث بكثرة، وأن ليس بمجرد الصمت تتأتى الحكمة، وأن الخداع والغيرة والأنانية لا تخفيها فصاحة اللسان ولا جمال القوام، وأن النبيل بحق هو من يكفي الخلائق من إنس وبهائم، شره: “ليس باتباع القواعد والطقوس والشعائر، ولا حتى بالكثير من التعلم والدرس، ولا بتحقيق استغراق الذهن، ولا بحياة العزلة التامة، ولا بقولك لنفسك: «إنني أتمتَّع بنعمة الترك والتخلّي، وهو ما لا يعرفه العامة من أبناء الدنيا» ولا بشيء من كل أولئك أيها الرهبان، تعرفون راحة الرضا، ما لم تُشف قروح نفوسكم شفاءً لا يغادر سقما”.
- في بيت (288) وفي الفصل العشرين (السبيل) حديث عن الخامل الذي لا يجتهد فلا يتلقّى الحكمة، وعن الموت الذي يذهب بصاحب العقل المتشبث بأملاكه، وعن كل من اعتمد على سواه وهو زائل: “وإذ يقطع الموت عليه الطريق، فلا حماية من قريب أو عزيز، لا مغيث ولا منقذ، لا أبناءه ولا أباه ولا عشيرته الأقربين”.
- في بيت (307) وفي الفصل الثاني والعشرين (الجحيم) حديث عن المنافين والأفاكين والفاحشين والمدلسين: “ما أكثر الأشرار والمستهترين الذين يلبسون ثوب الرهبان الأصفر. هؤلاء الخبثاء سوف يولدون من جديد في الجحيم جزاء لما كانوا يعملون”.
- في بيت (389) وفي الفصل السادس والعشرون الأخير (الرجل المقدس) تعليمات عنه كعالم بزوال الأشياء، المتأمل نافذ البصيرة، المشرق المطمئن: “يجب عدم التعرض لرجل مقدس، وعلى الرجل المقدس إذا تعرّض له أحد ألا يستسلم للغضب. عار على من يتعرض للرجل المقدس بالأذى، والعار عليه أكبر إن استسلم للغضب”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (66) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (11) ضمن (15) كتاب قرأتهم في شهر يونيو! وعن اقتنائه، فقد حصلت عليه من متجر (بيت الكتب) الإلكتروني في ديسمبر من عام 2023، ضمن أكثر من (120) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
ومن فعاليات الشهر: القراءة فقط ولا شيء سواها .. وهي تكفي!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: قناع بلون السماء / الحب حسب التقويم البغدادي / لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟ / سبعة أصناف من الأشخاص تجدهم في المكتبات / اعترافات ولعنات / بين الجزر والمد / الحياة مهنة تافهة / كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها / خازوقولوجي: علم دراسة الخازوق / في اليقين / نسوية للجميع
وعلى رف (التصوف) المفضّل لدي في مكتبتي، عدد أكثر من (120) كتاب .. أذكر منها: (المثنوي المعنوي) – تأليف: جلال الدين الرومي / (حكمة الإشراق) – تأليف: شهاب الدين السهروردي / (كتاب أخبار الحلاج) – تأليف: لوي ماسنيون / (متصوفة بغداد) – تأليف: عزيز السيد جاسم / (بحار الحب عند الصوفية) – تأليف: أحمد بهجت / (مفاتيح وشروح على الفتوحات المكية) – تأليف: محي الدين ابن العربي / (تقويم الحكمة: خواطر يومية لإثراء الروح) – تأليف: ليو تولستوي / (العشق الإلهي: تعاليم من التقليد الصوفي) – تأليف: اميد صفي / (النضج: عودة الإنسان إلى ذاته) – تأليف: أوشو / (سلطان الأولياء) – تأليف: نورية تشالاغان / (هكذا تكلم ابن عربي) – تأليف: د. نصر حامد أبو زيد / (كتاب آلاترا) – تأليف: آنا نوفيخ / (خلع النعلين: اقتباس النور من موضع القدمين) – تأليف: أبي القاسم الأندلسي / (الانفتاح على الآخر لدى المتصوفة) – تأليف: ماجدة حمود / (النبي) – تأليف: جبران خليل جبران / (كتاب الأسرار) – تأليف: فريد الدين العطار / (شمس المعارف الكبرى) – تأليف: أحمد بن علي البوني / (الدرويش الباكي عشقاً) – تأليف: يونس إمرة
تسلسل الكتاب على المدونة: 516
التعليقات