رواية تفضي في ختامها إلى الصمت .. صمت صوفي .. بل صمت حكيم يقود إلى التأمل، يقود بدوره إلى استحضار فلسفة غائبة واستشعار حكمة مخفية تحوم بالجوار .. كل هذا من خلال سيل من إشارات ولطائف وعلامات، أو كما أسماها المؤلف بـ (روح الحياة).
إن عبق الأندلس يُشتم في رحلة الراعي الأندلسي الشاب (سانتيغو) الذي يبتدأها من مسقط رأسه في اسبانيا ماراً بالمغرب وعبر مضيق جبل طارق حيث الملك الذي يسرّه بأسرار تخصه، وتنتهي عند أهرامات مصر حين يكشف عن سر كنزه المدفون ولكن في مكان آخر، ويتوج ختاماً بحب العربية فاطمة!. لم تكن رحلة عادية تعترك بها العقبات وبصاحبها فحسب، بل كانت كل عقبة قائمة حينها بمثابة إشارة ينطوي تجاوزها على حكمة تتكشّف شيئاً فشيئاً. في هذا، يدين المؤلف المخضرم بالفضل إلى التراث الصوفي الإسلامي، والذي اعتمد أسلوب القصص كتقليد متبع في نقل المعرفة، وهو تقليد قد جاور المؤلف في حياته من خلال اطلاعه العريض على الثقافة العربية.
رغم أنني لست من هواة قراءة الروايات ولا قصّها، غير أن فضولي أبى إلا أن يطلع على رواية صُنفت ضمن روائع الأدب العالمي (O Alquimista – By: Paulo Coelho)، لا سيما بعد أن أبدت زميلتي الأذرية إعجابها الشديد بالرواية وقد قرأتها باكراً قبل التقائنا على مقاعد الدراسة في إنجلترا. وبعيداً عن أحداث الرحلة التي لن أتطرق إليها وأكتفي بما ذكرت آنفاً، فلقد استلهمت من المغامر (سانتيغو) وصديقه الكيميائي معان قيّمة تبدو وكأنها ترسم طريق ما يفضي إلى فهم الحياة من خلال وعي مختلف .. وهذه هي الفائدة المرجوة التي أعتقد بتوخيّها من قراءة الروايات، وهو استخلاص العبرة، لا معرفة وحسب ما قيل وما حدث!. لذا، أكتفي بالأسطر القليلة من أجل سرد ما علق في ذهني من تلكم المعاني الصوفية -وقد حصدت الرواية ثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي- ومع اقتباس بنص ذهبي كلون الكنز (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
- لا يوجد أهون من القدر ولا أعقد من البشر.
- تبدو الأمور من حولنا سطحية، رغم أن إشارات الكون سخية .. فثمة لغة تتخطى الكلمات!.
- يقول شاعر البرتغال فرناندو بيسوا “المرآة تعكس بدقة متناهية .. لا تُخطئ أبداً لأنها لا تفكر”.. قد يُجدي التصرف بعفوية عن التصرف عقب تفكير .. كالمرآة التي تعكس الحقيقة .. “كالبحيرة التي تعكس السماء”.
- ألم يخبرك جدك يوماً أن الفراشة والجداجد والنفل ذو الوريقات الأربع .. بشير لفأل حسن؟
- تتبع كنزك من خلال قراءة ما كتبه الله لك .. في طريقك أنت فقط!.
- الأحلام لغة يخاطب بها الله خلقه .. ما كان منها بلغة العالمين فالتأويل هين، وإلا فإنها أحلام بلغة روحك، تفك شفرتها بذاتك .. واعلم بأن الله يكافئ من يؤمن بأحلامه الخاصة!.
- كل إنسان يولد بأسطورته الخاصة وما عليه إلا أن يسعى لخلقها حية، فـ “إذا رغبت في شيء بشدة، فإن العالم كله يطاوعك لتحقيق رغبتك” .. ألم تعلم أن الصدفة تختزن بداخلها البحر؟ فقد اتخذت من البحر أسطورة لها.. لكن تمهّل! هناك قوة غامضة تحاول جعل ذلك مستحيلاً.
- نخشى كثيراً من فقدان ما نملك، ونغفل عن حقيقة أن (خلق الكون وفناءه) هو عمل اليد ذاتها.
- قد يفوق الخوف من الألم .. الألم ذاته، غير أن القلب الساعي لتحقيق حلمه لا يشقى، ففي كل لحظة سعي، لقاء مع الله ولقاء مع الأبدية.
- السفر يخلق أصدقاء جدد دون الاضطرار للبقاء معهم .. من يبقى منهم يرى لنفسه نصيباً في حياتك، فيحاول تغييرها إذ ارتأى بأنها ليست كما يجب أن تكون عليه.
- إن القلب مثقل بالحنين، حتى إذا ثقل حمله فاضت العين بالدمع!. إن القلب حين يحب يضطرب .. يخفق .. يتساءل .. يسهر .. ويفكر فيمن يحب. وبينما تكون تلك الاختلاجات مؤشر على حياة القلب، فإنه يسرّ لسانتيغو حبوره وهو اعتاد أن ينصت إليه. يقول القلب: “إذا شكوت قليلاً فلأنني لست سوى قلب إنسان. وهكذا هي قلوب الناس، تخاف من تحقيق أحلامها الكبرى لأنها تعتقد أنها لا تستحق بلوغها، أو أنها فعلاً لا تقدر على بلوغها. إننا نموت .. نحن القلوب، خوفاً من حالات الحب الذي ولّى إلى الأبد، ومن الأوقات التي كان يمكن أن تكون أوقاتاً رائعة، ومن تلك التي ليست كذلك، ومن الكنوز التي كان يمكن اكتشافها، ولكنها ظلت إلى الأبد مدفونة في الرمال .. لأننا متى حصل ذلك، نتألم كثيراً من هول المعاناة التي تسبق النهاية”.
- يتحدث الكون لغة الحب، وهو ممتد في سلسلة متصلة من الفرص، لكنها حظ من يسعى فقط!. لا يتطلب الأمر أكثر من الوقوف برهة أمام كل إشارة وإن بدت عابرة، إلا أنه بشيء من التفكر والكثير من المثابرة، ينعم المرء بما أسماه الكاتب (الإنجاز العظيم) في نهاية رحلته .. وسيصدح حينها كما الراعي سانتيغو: “ها أنذا يا فاطمة .. إنني قادم”.
- قد يكون كنز كل واحد منا أقرب مما يتصور، وبشيء من الإصغاء و التبصر يصبح ملك اليد .. وتذكر دائماً: حيث يكون كنزك .. هناك قلبك.
على الهامش:
تسلّط شبكة المعلومات ضوءاً باهراً على النجاح منقطع النظير الذي حققته -ولا تزال- هذه الرواية رغم قدم تاريخ إصدارها والذي يعود إلى عام 1988، وهي تُعد من أوائل إصدارات المؤلف ضمن باكورة انتاجه الغزير، وقد تجاوزت مبيعاتها المائة وخمسين مليون نسخة حول العالم حتى خط هذه المراجعة، من خلال الترجمات التي غطت ثمانين لغة عالمية!. رغم هذا، فإن الرواية يحيط بها غموض من نوع آخر يتصدى له عدد من المفكرين! يرى البعض أنها تُبطن من العقائد الشيطانية ما تسعى الجمعيات السرية إلى نشرها في العالم، عبر رموزها ومؤلفها الذي كوفئ بتنصيبه كاتباً أشهر من نار على علم في زمن قياسي وهو لا يزال على قيد الحياة!. يرى البعض الآخر أن الرواية تقوم على التعاليم الباطنية للديانة الهرمسية والتي تتضارب في نسبها: فتارة تُنسب إلى هرمس-مثلث العظمة، وتارة إلى الإله الفرعوني تحوت، وتارة إلى هرمس تلميذ زرادشت، وتارة إلى النبي إدريس (أخنوخ) عليه السلام. وتدّعي هذه العقيدة بأن تعليماتها المنقوشة على اللوح الزمردي أو كما يُعرف بـ (الكنز المفقود) تمكّن من يتمكن من فكّ طلاسمها التعرّف على سر (حجر الفلاسفة)، وهو الحجر الأسطوري الذي يُعتقد بأنه يحوّل المعدن الرخيص كالنحاس إلى معدن نفيس كالذهب -ومن هنا جاء لفظ “الخيميائي” والذي يعني: الكيمياء القديمة- ويهب (إكسير الحياة) أو العقار الذي يضمن لشاربه حياة أبدية أو شباب دائم. أما كتاب (The Desert Enigma: An Analysis of Occult Symboilsm in Paulo Coelho’s the Alchemist) لمؤلفه (Isaac Weishaupt) فإنه يتعرض تحليلياً إلى الرموز الغامضة التي حملتها الرواية، وما تبثّ من رسائل خفية حول لعبة النظام العالمي الجديد وتبني فكرة (تطور الوعي) عالمياً، الأمر الذي سيسمح لبوابة الأرض استقبال كائنات تعود إلى أبعاد كونية أخرى، وتمهّد لخروج المسيح الدجال!.
إنها رواية رغم شهرتها عالمياً فإنها مثيرة للجدل عقائدياً!.
ومما يجدر به الذكر، أن حكاية البحث عن الكنز -وقبل أن يضمنّها الروائي البرازيلي في روايته- قد أوردها القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة). والتي تحكي قصة رجل قد حلم بكنز موجود في بلاد بعيدة، فشدّ الرحال إليها علّه يجده، فيمرّ بتجارب عجيبة وكثيرة أثناء رحلته، حتى يلتقي بعابر ويقص عليه حلمه، فما يلبث حتى يبادره هذا بالضحك وينعته بالسذاجة، إذ حلم هو من قبل بكنز مدفون في بلاد بعيدة لكنه لم يصدّقه! وحين وصف له موضع الكنز في تلك البلاد، تبين الرجل أن الموضع ليس سوى حديقة منزله، فيعود أدراجه من توه إلى بلده، ويعثر على كنزه أخيراً في حديقة منزله. والتنوخي هو: أبو علي المحسن بن علي بن محمد بن داوود بن إبراهيم التنوخي الأنطاكي (26 ربيع الأول 327هـ/20 يناير 939 – 25 محرم 384هـ/2 مارس 994م) .. أديب وكاتب ومؤرِّخ عاش في العصر العباسي.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الرواية (27) كما دوّنت ضمن قائمة من كتب قرأتهم في عام 2017، وهي أول ما اقرأ في شهر نوفمبر من بين ست كتب .. غير أن ذاكرتي لا تسعفني، ولا حتى مفكرتي القديمة بما تحويه من ملاحظات، ولا مسودات التدوين في حينها، من تعيين إجمالي عدد الكتب التي قرأتها في هذا العام بالتحديد! وعلى الرغم من أنني أجد بخط يدي على هامش مفكرة العام عبارة (33 كتاب)، إلا أنني لا أعتقد أنها ملاحظة دقيقة. وعن اقتنائها، فقد حصلت عليها من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية، لكنني لا أستطيع تحديد المكان ولا الزمان!.
لكنني لا زلت أتذكر تماماً الأعوام الثلاث التي قضيتها في تحصيل دراساتي العليا في المملكة المتحدة، والأعوام التي تلتها وأنا منهمكة بجد في عملي المهني الذي لا يمتّ بصلة لهواية القراءة لا من قريب ولا من بعيد .. الدراسة التي استحوذت على حياتي حينها، والعمل الذي كان يستنفد القدر الأكبر من وقتي وطاقتي، بحيث لا يتبقى للقراءة في نهاية اليوم سوى القليل من الوقت والتركيز .. ولله الحمد دائماً وأبداً.
وعلى هامش آخر فوق عالم مواز تقبع فيه كائنات صحراوية وتمتح من بُعد كوني مسطّح:
عندما قمت ابتداءً بنشر مراجعتي القصيرة للرواية على حسابي في تطبيق الانستجرام، حصل أن تواصل معي حينها رئيس لمجموعة على حساب في الفيس بوك تهتم بالكتب والروايات، واستأذنني بنشر مراجعتي في مجموعتهم. رحبت بالأمر وزودته بكامل المراجعة مع بعض الصور للرواية التقطتها شخصياً. بعد نشر مراجعة الرواية وتلقي استحسان المشتركين، يفاجئ رئيس المجموعة بطلب أحد الأعضاء حذف الصور المرفقة، فيوضح رئيس المجموعة أنها صور صاحبة المراجعة التي تم نشرها تكرّماً، غير أن العضو أصرّ على طلبه موضحاً أن اعتراضه على الصور يأتي عن ظهور طرف من كف المرأة (كفي) بها وهي تمسك بالرواية، لا سيما وأظافرها تصطبغ بالحمرة .. الإغراء الذي لا يجوز شرعاً!.
لم أكن أعرف قبل هذا أن أصابع الكف لها فعل الفياغرا!؟
فإن جاء العتب على رواية الخيميائي لما تبّث من عقائد مشبوهة، فإن العقائد القائمة ليست سوى أساطير الأولين .. والله المستعان!
وكل يغني على ليلاه
وكل يُفتي بما يعتقد
وقد يستعّر الشبق بشق إصبع
وكل إناء بالذي فيه ينضح!
تسلسل الرواية على المدونة: 73
التعليقات