هنا معادلة عصية على التكافؤ .. في الروح المتشظية بين الحياة الجديرة بالمحيا، والموت في سبيل محياها! قد تموت عزائم أبناء ينتسبون لشعوب جبابرة، وهي تخوض تجارب تلو تجارب تموج بين الكر والفر في سبيل نصر موعود، لكنها تجارب تُبقي على أنفاس تتردد بين جنبات أرواح تلك العزائم، لتحيا … ولو بعد حين!
هنا تجربة أسير في سجون الاحتلال، قد تختلف في سميّتها عن أساطير سجون الاعتقال العربية حين تجثم على صدر كل قارئ ولا تبرحه حد الموت قاب قوسين أو أدنى، والتي استوحى الأسير أحداثها وملامح أبطالها من واقع الحياة، وما نفق الحرية الذي دك إسمنت سجن جلبوع بأيدي أسراه الأبطال .. ببعيد! أو كما يستهل الأسير حديثه بتمجيد الحب الذي تبيّن أنه حقاً صانع للمستحيل .. إذ يقول: “تحتاج الأفعال العظيمة والمستحيلة الأقرب إلى المعجزات، إلى حب عظيم كي تحدث …”.
هنا أحداث طوال تقف في محطات يطول بدورها أمدها .. تبدأ بـ (الهرب) الشجاع المدفوع بالأمل، والذي يتبعه (الجوع) المصاحب لقرار الإضراب، لكنه مشوب بـ (الحب) الذي يُبقي على حياة القلب غضّة وهو أسير، حتى يصل إلى (النهايات) الحتمية التي لا بد لها أن توصل بدورها في نهاية المطاف إلى (الحرية) المنشودة!
…. وللحرية معنى مغاير لدى من نشد الحرية في إنسانيته أولاً، والتي تظهر في وصف الأسير حين قال: “فقط في تلك اللحظة التي قررت فيها أن أهرب من السجن، وأن أتحدى بأناملي العارية الضعيفة جدران الخزنة الفولاذية المطلية بالإسمنت شعرت أنني تحررت حقاً”.
فعن الهرب:
- لا يغدو المرء هو ذاته بعد أن يتخذ قراراً مصيرياً، بل سيكون في نسخته الجديدة التي سيبدأ في التعرف عليها والتعود شيئاً فشيئاً! يقول الأسير عن هذه الخاطرة: “إن اللحظة التي نتخذ فيها هذا القرار الذي لا نعود بعده كما كنا قبله هي الأهم. وكل ما سيتبعها لن يعدو كونه ترجمة لها وتدربًا على التعود على ذاتك الجديدة”.
- تمتزج الرهبة من المجهول بالجرأة على اقتحامه! هكذا يحدّث الأسير عن مغامرة الهرب التي استلهمها من حكاية الأسير سفيان في تجربته حين تقاطعت مصائرهما، فيقول فيها: “حكايات وقصص الهرب من السجن، بقدر ما تجذب وتوحي وتلهم بقدر ما تدخل في النفس الرهبة، لا يقدم عليها إلا من جبل من مادة خاصة، ونذر جسده وروحه للقادم الغامض والخفي، الذي يشده بخيط سري نحو عوالم غير مكتشفة، لا تدعو إليها إلا القلة الشبيهة بالقديسين الذين لا يمكنك تمييزهم، والتعرف عليهم إلا بعد صلبهم على عمود مشتعل مثل السفود، أو سحلهم في الشوارع”.
وعن الجوع:
- عجباً كيف يصبح الجوع الذي لا يجد الأسير دونه سلاحاً فيفتك بجسده .. سلاحاً أشد فتكاً في يد كل طليق، وهو أسير أنظمة قمعية تبطش بالحريات! يعبّر الأسير عن هذه المفارقة فيقول: “أمعاؤنا الخاوية التي لم تعد سلاحاً في أيدينا فقط، بل أداة تلهم الشعوب كي تناضل وتنتصر وتكسر صمتها، وحالة توحد حولها شعبنا وقلبت أولوياته. قضيتنا ارتقت لتتربع على صدارة الاهتمام الرسمي والشعبي”.
- تعترف له الروسية الحسناء، الزمردية العينين، بشعرها الأشقر المتمايل بنعومة فوق كتفيها المرصعان بالرتب العسكرية، والتي لم تكن سوى (سالي)، السجّانة التي كانت تشرف على زنزانتهم حين أضربوا عن الطعام، والتي كانت تهاب نظراته الثاقبة آنذاك رغم إنهاكه: “بعد الإضراب ذهبت إلى مكتبي، وفتحت الحاسوب وبدأت أقرأ سيرتكم الذاتية، صدمت لهذا العدد الكبير بينكم ممن يحملون الألقاب الجامعية، هذا فسر لي وجود هذا الكم الهائل من الكتب في غرفكم! لاحظت أن بعضكم وسيم، وآخرين عليهم آثار رفاهية وغنى مادي واضح، وأن هندامكم دائماً مرتب، وأنكم تعتنون بأجسادكم من خلال ممارسة الرياضة. أصبحت أخاف منكم أكثر، والمستقبل أصبح أكثر قتامة بالنسبة لي”. لا تكفّ سالي، بل تسترسل في سيل اعترافاتها وكأنها تبوح لراهب في دير يلفه الضباب فوق تل معزول وبعيد، قائلة: “ذهبت ذات يوم إلى غرفة الزيارة التي تقابلون فيها عائلاتكم لأرى الأمهات والزوجات والأطفال، ولم أتوقف عن سؤال نفسي كيف استطعتم أن تبتعدوا عنهم؟! كانت بعض النساء جميلات ويطيرن القبل في الهواء لأزواجهن. وكيف خاطرتم بحياتكم وخضتم هذا الإضراب الجنوني الذي وصلتم به إلى حافة الموت دون أن تفكروا بهن؟”.
وعن الحب:
- شتان بين شعور النصر وشعور الهزيمة! فإن كان النصر يخلف المعركة، فإن الهزيمة لا تبرح تعترك في روح ضحيتها! وفيهما يقول الأسير: “الانتصار مهما كان باهتاً، يمكن تجميله، تضخيمه، تلميعه .. أما الهزيمة فإن لها وجهاً وأنياباً تنهش الروح ولا يمكن إخفاؤها مهما اجتهدت في محاولة تجاهلها”.
- لم يكن السجن كالسجن في كل مرة كانت تلتقيه (سهام) .. المحامية الشابة الناجحة، والتي مع إصرارها متابعة قضيته وزملائه في الأسر، تأسر قلبه بكل تفاصيلها التي ذهبت في مخيلته أبعد من هندام أنيق وعطر أخاذ وابتسامة عابرة! تجود قريحته الشاعرية لذلك فيقول: “لا أريد أن آكل وأشرب وأنام .. لم أخلق لهذا! هناك زوايا معتمة في روحي لم أطأها ولا اختبرتها .. أريد أن أغوص بها، وأن أغرف بكلتا يدي منها، وأن أتذوق ما تقدمه من نعيم وجحيم وعذاب وهناء. لن تكتمل إنسانية الإنسان دون أن يغرف من الحب، ويغرق في امرأة تكون قد خلقت له وضاعت لقرون قبل أن يهتدي بقلبه إليها”.
وعن النهايات:
- قد تأتي الخواتيم بما لا تشتهي الأمنيات في أولها، فلا حيلة عندئذ سوى معايشتها بلا روح! يقول الأسير في نبرة لا تخلو من يأس: “نحن لا نختار النهايات .. هي التي تختار اللحظة التي تضرب بها مثل نصل سيف على لوح خشبي جاف، محدثة ضجيجاً موجعاً. يحدث هذا عندما نكون في ذروة بحثنا عن نهاية مختلفة، أنفقنا لأجلها أجمل سنوات وأيام عمرنا وطاقتنا، حتى إذا ما واصلنا الحياة بعدها، نواصل ببقايا عمر ودون طاقة”.
- سامر .. الأسير الذي أودع زنزانة العزل الانفرادي، حين أقرّ واثنان ممن معه بعد إحباط عملية هروبهم عبر النفق المحفور بأيديهم .. بالتخطيط وبالتنفيذ، يعود لرفاقه وقد أصبح أكثر هزالاً وانطواءً، فيحتضنه الأسير ويعتذر له بدموع يذرفها على كتفيه. يقول عن هذه اللحظة: “لم تكن لدى سامر الرغبة في الحديث عما حدث معه، وأمام إلحاحي وطول بقائنا معاً، قال لي إنه عاش أسعد لحظات حياته! قال لي إنه عندما استلقى على العشب اليابس، لم يشأ أن ينهض أبداً، أراد أن يتوحد معه، أحس بجسده لأول مرة أنه يعود إليه، وأنه أصبح قشة صفراء يابسة ذابت مع القش وأصبحت جزءاً منه”. فينقل عنه قوله: “عندما انهالوا عليّ وجلسوا فوقي، وأنا ممدد على العشب اليابس ازداد شعوري بالتماهي مع القش والأرض والتراب، وأن أقداماً تدوسنا بحقد معاً، أقدام غريبة وصلبة لا تشبه هذا الفجر أو الأرض والقش”.
وعن الحرية:
- يتنسّم الأسير هواء الحرية بعد إطلاق سراحه مشوباً برائحة تراب النفق. وبينما يقع في حب (دارين) التي تعرّف من خلاها على المدينة من جديد، يتعرّف على ملمس التين الطري الذي يلمس شغاف الروح حين مذاقه. له إذاً أن يستلهم منه طيب الحياة ويقول: “أصبحت متعتي بعد أن تحررت أن أذهب في الصيف لجمع التين، لم أكن أجمعه كي آكله، بل كنت أتحسسه وأقول: إنّ من لامس هذه الفاكهة العسلية، لا يمكن أن يقوى على تشييد سجن، هذه النعومة والليونة لا يمكن أن تهدي الإنسان إلى تشييد مكان معتم ومغلق وموحش مثل السجن. إنّها ترقق النفس وتسري في البدن من أطراف الأصابع إلى أعماق الروح”.
- إنها الخزنة إذاً .. والانفكاك منها أخيراً: “كانت عملية الإفراج، والخروج من الخزنة، كما اعتادت إدارة السجن أن تطلق على سجني شطة وجلبوع سريعة ومفاجئة، لكنها أيضاً مرهقة ومنزوعة من أي شعور حقيقي بالفرح. كانت لحظات بهجة حافلة بالمواقف المحرجة”.
……….. ولمن أراد معرفة تفاصيل تلك المواقف المحرجة التي جمعت ذكرى كفاح .. تكلل بالنصر أم لا .. فليقرأ هذه الرواية!
ختاماً أقول، وأنا لا أُحسن قصّ القصص: إنها سيرة سجين وأشباهه داخل الأسر وخارجه، لا تشبه فيما جادت به من شجن رغم ما بثّت من ألم، ما قرأت في رعب أدب السجون .. وتراني لهذا اقتبست ما راق لي من أشجانها في نص بلون الحرية (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد استحوذت على أربع من رصيد أنجمي الخماسي.
إنها تستحق أن تُروى، وأن تُهدى كما فعل الأسير .. لآباء ولأمهات أمضوا في السجن حيواتهم وقضوا ولم يُنجبوا أولئك الأطفال الذين كان لهم أن ينعموا أيضاً بحيوات، ولم ينعموا بها .. وأن تُهدى لهم أيضاً هذه الحكاية!
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (52) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (9) ضمن قراءات شهر مايو الذي قرأت فيه (12) كتاب، منها واحداً لم أتمّه! وعن اقتنائه، فقد حصلت عليه من معرض للكتاب أقيم هذا الشهر بإحدى المدن العربية، ضمن (250) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض، وقد جاء كترشيح من البائع في دار النشر.
ومن فعاليات الشهر: كان الوقت حافلاً بإعداد قائمة الكتب التي حرصت على شرائها من المعرض، وبزيارة المعرض خلال معظم أيامه! وليت العام بطوله معرضاً للكتاب .. لكن هكذا هي الأيام السعيدة، سريعاً ما تنقضي، والأمل يتجدد مع المعارض القادمة.
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة / موطن الروح / الغباء البشري / نحو تجديد الفكر القومي العربي / مقالات في السياسة / أخاديد / رسائل من القرآن / في جو من الندم الفكري
وعلى رف (أدب السجون) في مكتبتي الذي يثير اهتمامي دائماً، عدد يقارب (60) كتاب .. أذكر منها: (أيام من حياتي) – تأليف: زينب الغزالي / (موسوعة العذاب) – تأليف: عبود الشالجي / (كتابات من السجن) – تأليف: بوبي ساندز / (القوقعة: يوميات متلصص) – تأليف: مصطفى خليفة / (ناج من المقصلة) – تأليف: محمد برو / (قناع بلون السماء) – تأليف: باسم خندقي / (شرق المتوسط) – تأليف: عبدالرحمن منيف / (حديث الجنود) – تأليف: أيمن العتوم / (بيت خالتي) – تأليف: د. أحمد خيري العمري / (أمير الظل) – تأليف: عبدالله البرغوثي / (تدمر شاهد ومشهود: مذكرات معتقل في سجون الأسد) – تأليف: محمد سليم حماد / (الكتابة والسجن: عالم الكتابة في السجن) – تأليف: كميل أبو حنيش / (إلى أن نصبح أحرار: نضالي من أجل حقوق الإنسان في إيران) – تأليف: شيرين عبادي / (قسم المحكومين) – تأليف: كيهان خانجاني / (تلك العتمة الباهرة) – تأليف: الطاهر بن جلون / (سرنامة) – تأليف: عزيز نيسن / (الشوك والقرنفل) – تأليف: يحيى السنوار / (الفتاة الأخيرة) – تأليف: نادية مراد / (اثنتا عشرة صرخة من الوطن) – تأليف: مينولي سالغادو / (دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب) – تأليف: ربيع جابر / (تاريخ التعذيب) – تأليف: بيرنهاردت ج. هروود / (ناجيات) – تأليف: ورد فراتي
تسلسل الكتاب على المدونة: 502
التعليقات