بينما يوجز الحديث الصحيح المعنى الوارد في قول النبي الأكرم ﷺ: “وَحَدِّثُوا عن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ”، يتكفّل هذا الكتاب بالشهادة على صدقه فيما يعرض من جبلة اليهود وما هي عليها من صفاقة وتضليل وتدليس، كحقيقة لا لبس فيها!
كطبيعة بشرية جُبلت على تقديس قوة عظمى تعلوها، يصبح من الصعوبة بمكان المس بالذات التي تم تنصيبها كرمز سامٍ أو كمثل أعلى، بل وقد كانت تُشن الحروب عندما تسبق دابة قبيلة بهيمة الأخرى، حتى تأتي التوراة بأشنع ما يمكن تصوره في حق صفوة خلق الله، بل في ذاته تبارك وتعالى “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا”.
فعن التوراة ككتاب سماوي أوحي به إلى موسى عليه السلام -وهو أحد أولي العزم من الرسل- فإن الجدل حول مدى مصداقيتها قد تلقفّته الأديان السماوية الأخرى بالأخذ والرد، إضافة إلى فرق اليهود أنفسهم. حيث لا يعترف السامريون سوى بالأسفار الخمس الأولى من التوراة والتي تأتي على الحقبة من آدم إلى موسى عليهما السلام، بحيث يصبح ما تبقى من الأسفار مجرد ذكريات تاريخية تصف أحداثاً وقعت لأصحاب موسى بعد وفاته بمئات السنين ولا يد له فيها، فما هي إلا كتابات أصحابها ولا يصح تضمينها الكتاب المقدّس. وبحجة أنها غير محسوبة على التوراة كأسفار مقدسة، تحذف الكنيسة البروتستانتية أسفار باروخ وطوبيا ويهوديت والمقابين الأول والثاني، وبعض من سفر أستير وسفر دانيال، في حين تعترف الكنيسة الكاثوليكية بها جميعاً. أما المسلمين، ومع إيمانهم بموسى عليه السلام كنبي مرسل إلى قوم يهود بكتاب التوراة المنزّل من الله، فإنهم لا يؤمنون بصدق التوراة المتداولة، وذلك لما طالها من التحريف والتبديل على أيدي اليهود أنفسهم، وكما جاء في النص القرآني عن ديدنهم: “يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ”.
يضع كتاب (التوراة) المفكّر الراحل د. مصطفى محمود في تسعينيات القرن الماضي، وهو إذ يؤكد من ناحية على تأصل الحمض النووي في خلقة اليهود الأولين والآخرين وفي أفعالهم -وما أشبه الليلة بالبارحة- يؤكد من ناحية أخرى على أصالة الفكر الحر، وحضور المفكر -وإن كان غائباً- بجزالة فكرة، وصدق منهجه، وإخلاصه لما يعتنق. ويُعتبر الكتاب القصير نسبياً بمثابة مقدمة تعريفية لما جال وصال في التوراة، وكدافع تحفيزي للاستزادة والاطلاع على مراجع أكثر تفصيلاً، بل وعلى التوراة نفسها.
ومن الكتاب الذي حصد أربع نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، أقتبس من هول الأباطيل في نص حارق (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- يبدأ المفكّر في فضح أباطيل اليهود من خلال توراتهم المزعومة، إذ أن “القراءة المتأنية للتوراة المتداولة لا يخرج منها القارئ بأنه أمام كتاب أوحى به الله، فالأنبياء الذين تعارفنا على إجلالهم واحترامهم نراهم في التوراة عصبة من الأشرار، سكيرين ولصوصاً وزناة وكذابين ومخادعين وقتلة.. والله نراه يفعل الفعل ثم يندم عليه، ويختار رسوله ثم يكتشف أنه قد أخطأ الاختيار، وكأنه لا يدري من أمر نفسه شيئاً ولا يعرف ماذا يخبئه الغيب! نرى الله في التوراة ينام ويستيقظ، ونقرأ في سفر زكريا الاصحاح الثاني: (واسكتوا يا كل البشر قدام الرب لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه). والرب في التوراة يخلق العالم في ستة أيام ثم يتعب ويحل عليه الإرهاق فيستريح”. يستمر فجور اليهود ليمس أنبياء الله بعد تطاولهم على مقامه جلّ وعلا، فيقول المفكّر: “أما الأنبياء فقد قارفوا جميع الخطايا. نقرأ عن نوح عليه السلام أنه شرب خمراً حتى سكر وتعرى داخل خبائه، ورأى ابنه حام عورته فأخبر أخاه سام فجاء سام ويافث وسترا عورة أبيهم، فلما تيّقظ الأب وعلم بالأمر دعا باللعنة على حام ونسله من الكنعانيين، يكونون عبيداً لسام مدى الدهر (والغرض السياسي هنا واضح بالنسبة لليهودي الذي كتب هذا الكلام، فهو يدعو على أبناء حام -وهم الفلسطينيون والمصريون- بأن يكونوا عبيداً للساميين اليهود، وتحت حكمهم مدى الدهر”. بل إن أولئك الساميين الذين لم يتورعوا عن عبادة الأصنام، قد دفعوا بموسى ليتبجّح عند الله معاتباً حين غضب عليهم، وهو يأمره: “ارجع يا رب من غضبك واندم” فيتأثر ذلك الرب ويطيع من فوره “فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه”.
- ومع الفحش الذي يقابله قول ابن داوود الملك في أورشليم كما ورد في سفر الجامعة: “رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ، فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ”.. يختم المفكّر كتابه بالتنبؤات التوراتية التي وافقت القرآنية فيما يخص علو شأن بني إسرائيل في آخر الزمان، مع فارق الخاتمة! ففي حين تصفه التوراة “علواً إلى نصرة مطلقة وسيادة على العالمين إلى يوم الدينونة”، يصفه القرآن الكريم بالطغيان “علواً ينتهي بهزيمة وخراب وتحطيم لما بنت إسرائيل ولما عمرت”. وبما أن الأيام يداولها الله بين الناس، فيترك المفكّر ذلك العلو للتاريخ، ولليهود الابتهال لربهم وحدهم، وللمؤمنين التضرّع لرب العالمين، وللأقلام التي كتبت التوراة أن تتحطم، وللقلم الذي تجري عليه المقادير أن يستكمل كتابه في مشهد آخر الزمان “ليسطر نهاية الكتاب بما يرى ويشهد”.
تم نشر المراجعة في جريدة الشرق
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (34) في قائمة ضمت (85) كتاب قرأتهم عام 2019، رغم أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (80) كتاب فقط! وهو سابع كتاب اقرؤه في شهر يونيو ضمن أحد عشر كتاب .. وقد قرأته ضمن مجموعة من إصدارات المفكّر خلال أسبوع خصصته لإعادة قراءة بعض من إصداراته. أما عن هذا الكتاب تحديداً، فقد اقتنيته مع بدايات إصداره ضمن مجموعة كبيرة من إصدارات المفكر حيث قرأتهم حينها جميعاً، والتي جاءت في طبعة منسوخة بالآلة الكاتبة على أوراق ازدادت صفرة حتى اللحظة.
من فعاليات الشهر: حضرت دورة مهنية مكثفة في مدينة لندن لمدة أسبوعين، لكنها لم تمنعني من متابعة القراءة هناك.
تسلسل الكتاب على المدونة: 150
التعليقات