كتاب قد يُصنّف ضمن علم اجتماع الفضائح، والذي يعرّي ما يعتمل في باطن إنسان المجتمع النامي من غصص وقهر وكبت، وهو متوارٍ تحت أعراف وقوانين وشرائع دينية وألوان من قيود أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. إنه الواقع لا محالة! فالمجتمعات الشرقية تعيش في استسلام شبه متناهٍ وهي ترزح تحت سطوة إقطاعية مستبدة تربّع على عرشها زمرة من طغاة تستفرد بالقضاء والقدر كآلهة شر، ويخضع الأفراد لجبروتها خانعين كأمة من المقهورين، قد أبلسوا من رحمتها، لا حول لهم في ذلك ولا قوة. بيد أن المعضلة لا تكمن في الغفلة عن تناول التخلف بالبحث والدراسة من جانب التنمويين، ولا في تجاهل الساسة عن الوجود الفريد لهكذا نمط إنساني له تفاعلاته العقلية والنفسية، بل في التأثير الفعّال للإنسان المتخلف ذاته نحو تعزيز هذه الصيرورة وترسيخ أركانها ومقاومة أي بادرة نحو التغيير، في إصراره المحافظة على توازنه النفسي الذي أصلّت له في الأساس تنشئة بيئة اجتماعية يسودها التخلف، تشترك فيها قوى طبيعية غيبية تبسط ممارساتها الاعتباطية عليه وتشكيل الطابع العام لتركيبته النفسية، وقد أضافت له قهراً مضاعفاً.
وعن الباحث، فهو د. مصطفى حجازي، كاتب لبناني وعالم نفس وأستاذ أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراة في علم النفس من جامعة ليون في فرنسا، وله العديد من الأبحاث العلمية، وقد بدأ إصداراته الفكرية بالكتاب الذي بين أيدينا عام 1981، وهو الكتاب الذي لا يزال محط اهتمام ونقاش ومراجعة حتى الوقت الحاضر. وله في نفس الحقل كتاب/ العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان. وكتاب/ الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية.
يعرض فهرس الكتاب تسعة فصول تسترسل من خلال قسمين رئيسيين، أعرضها جميعاً كما يلي:
الأول: الملامح النفسية للوجود المتخلف:
- تحديد وتعريف
- الخصائص النفسية للتخلف
- العقلية المتخلفة
- الحياة اللاواعية
الثاني: الأساليب الدفاعية:
- الانكفاء على الذات
- التماهي بالمتسلط
- السيطرة الخرافية على المصير
- العنف
- وضعية المرأة
وبينما يعرّف د. حجازي كتابه بأنه (مدخل)، فهو يأتي بمثابة مبحث متكامل يتعرّض فيه بموضوعية إلى المسائل التسعة المعروضة آنفاً، والتي من خلالها يحدّد المشكلة ويعرض الحجج والأعمال المقترحة .. وقد كان جديراً باستنفاد رصيد أنجمي الخماسي كاملاً. وفي الأسطر التالية، أعرض أبرز ما جاء في مآزق الإنسان المقهور، وبالاقتباس في رمادية من نصوصه (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
- على الرغم من تسليط الضوء على الفئة الأكثر قهراً في المجتمع المتخلف تحت سلّم السطوة والخضوع، يعتقد د. حجازي أن الفئة التي تبدو أكثر حظاً لا تخلو أيضاً من قهر، مع اختلاف درجة الحدّة. يقول: “فبينما يتماهى الفلاح بسيده ويشعر بالدونية تجاهه، نرى السيد يتماهى بدوره بالمستعمر أو الرأسمالي الأوروبي ويشعر بالدونية نفسها تجاهه”.
- يتطرق كذلك وهو يتحدث عن التخلف العقلي إلى طابع “الخصاء الذهني” الذي يتلبّس الإنسان المتخلف اجتماعياً كحالة ضعف عقلية زائفة. ففي حين يتشكّل هذا الخصاء عموماً كعجز عن تأكيد الذات أمام العالم في هيئة مقاومة الفهم، يأتي هذا الخصاء اجتماعياً في هيئة رضوخ الإنسان المتخلف لأساطير قوى الطبيعة وسطوة أصحاب السلطة، فيبدو المتخلف دائم التردد في الاقبال على أمر ما خشية الفشل، أو قد يصرّح بعدم قدرته عليه قبل بذل أي محاولة، بل قد يشطّ البعض ويصدر أحكاماً تعسفية على هذا الأمر متبجحاً بموهبته السريعة على الفهم. فيقول: “يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة) الذي يعتدّ به الجمهور كوسيلة مفضّلة للفهم”.
- من ملامح المجتمع المتخلف ما يطلق عليه د. حجازي بـ “التوتر الوجودي العام”، حيث الاستنفار النفسي العام لأي صراع محتمل! إذ ما يلبث اثنان أن يتحاورا حتى يختلفا في وجهات النظر، لتحلّ السباب وشتائم الأعراض محل الجدال الموضوعي، وحيث تطغى العاطفة الانفعالية على كل ملكات النقد والمنطق والعقلانية. يستزيد ويقول: “وأحياناً ينفّذ التهديد باستخدام العضلات أو السلاح بسهولة مذهلة في فورة غضب. ذلك أن هناك إحساساً دفيناً بانعدام فعالية اللغة اللفظية وأسلوب الاقناع، فيتحول الأمر بسرعة إلى الحسم السحري (العضلي أو الناري) من خلال الإخضاع”.
- يؤمن الإنسان المقهور بطغيان قوى خارقة للطبيعة تتلاعب في مصيره، كتلبّس الأرواح والجن والعفاريت وتحكّمها في فرص الخطوبة والزواج والعلاقات الجنسية والإنجاب، بالإضافة إلى إصابات العين القاتلة وطاقة الحسد وغيرها من شرور الماورائيات! لذا، يسعى هذا الإنسان جاهداً إلى اتخاذ ما يلزم من تدابير وطقوس تكفيه شرورها وتضمن له نوعاً من التحكم في مصيره، كالاستعانة بخدّام المقامات وتحضير جلسات الزار، وتخبئة المولود، وإخفاء الأثاث، والتكتم على حجم الثروة، وإفساد كل مظهر جميل!. يخلص د. حجازي بقوله: “ليس هناك إذاً أكثر تضليلاً من إلقاء المسئولية على الكائنات الخفية ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة”.
أما عن المرأة في المجتمعات المتخلفة، فقد حدّث د. حجازي عنها ولم يتملّكه حرج .. فهي:
- أفصح النماذج تعبيراً عن الوجود الإنساني المتخلف في كافة أوجهه، لا سيما في عجزه ونقصه وتبعيته ورجعية تفكيره، والذي يظهر جلياً في تغلّب عاطفة المرأة وإنكار ذاتها وإحلال الخرافة محل التفكير الجدلي.
- بين نقيضين، حيث تتفاوت مكانتها لدى الرجل في المجتمع المتخلف: “بين أقصى الارتفاع: (الكائن الثمين، مركز الشرف الذاتي، رمز الصفاء البشري الذي يبدو في الأمومة)، وبين أقصى حالات التبخيس: (المرأة العورة، المرأة رمز العيب والضعف، المرأة القاصر، الجاهلة، المرأة رمز الخصاء، المرأة الأداة التي يمتلكها الرجل مستخدماً إياها لمنافعه المتعددة) “. يستطرد ويقول: “في الحالتين تُستخدم المرأة كوسيلة للتعويض عن المهانة التي يلقاها الرجل المقهور اجتماعياً، وللتعويض عن قصوره اللاواعي بإسقاطه على المرأة “.
- محل ترقيع لذلك الخرق الإنساني، إذ: “كلما كان الرجل أكثر غبناً في مكانته الاجتماعية، مارس قهراً أكبر على المرأة”. ثم يقول عن استخدامها كأداة لذلك الترقيع: “وحتى يتم شحن الرجل بالقوة أو وهمها أو بالقدرة أو تخيلها حتى يتم تحويله إلى أسطورة الكفاءة التي تصور عنده، لا بد من إسقاط الضعف والهوان على المرأة. وهكذا تلعب هذه دور المعبّرة عن المأساة، الناطقة بالمعاناة .. تلعب دور الكائن القاصر التابع الذي يحتاج إلى وصي”.
- في موقع أسوأ بكثير عند الأوساط الكادحة وما دونها، تتحول المرأة إلى مجرد وعاء لاحتواء متعة الرجل وأداة لبقاء النوع البشري لا أكثر، فيقول: “والقاعدة هي أن يعوض الرجل كل قهره ومهانته من خلال لعب دور السيد الذي يُخضع المرأة، يستعبدها ويستغلها، ويحولها إلى أداة له، تخدمه، تنجب له الذرية التي تعزز قوته الذكورية فتتحول إلى وعاء لمتعته بشكل أناني لا يراعي حاجاتها ورغباتها. تموت نفسياً كي يستمد هو من هذا الموت وهم الحياة، تسحق كي يستمد هو من هذا الانسحاق وهم تحقيق الذات. باختصار يستغلها كلياً وعلى جميع الصعد كي يتهرب من هوان استغلال المتسلط له”. لا يكتفي د. حجازي بهذا الحد من تعرية واقع المرأة المتخلّف، بل يستمر ليكشف كامل السوأة المتمثلة في أقصى درجات القهر التي قد يمارسها ذلك المجتمع عليها، وذلك في تنكّره لكينونتها لحظة قدومها للحياة، فيقول: “فهي تُستقبل حين تولد بالتذمر والتبرم والضيق، إذا لم تستقبل بالرفض الصريح. وهي توضع كطفلة في مرتبة ثانية أو هامشية بالنسبة للصبي الذي يعطى كل القيمة، وهي تتحول إلى خادمة للأخوة والأب، حين تستنزف طاقة الأم، وهي تستخدم كأداة لتمرس أخوتها ببسط النفوذ الرجولي من خلال الوصايا وبزعم الحماية الوهمية لها. وعليها تنصب كل الضغوط وتفرض كل القيود في طور البلوغ. وتتابع مسيرتها متوجهة نحو مصيرها كأداة للمصاهرة يباع جسدها لقاء تغطية أعباء نفقاته ولقاء مبلغ من المال من الزوج كي يتخذ منه أداة لمتعته ووعاء لذريته وجهازاً حركياً يقوم على خدمته. أما نفسها وكيانها فيفرض عليهما موت معنوي بطيء”.
- في تكوينها البيولوجي كأنثى .. لا تختلف عن الذكر، بل إن تكوينها هو الأكثر متانة ومناعة، غير أن التبخيس الجسدي في لغته وحركته أدى إلى ارتداد طاقته داخلياً على شكل مازوشية، تفجّر فيها المرأة عدوانها على ذاتها، والذي قد ينطلق خارجياً على هيئة ممارسات تشي بالحقد والحسد والكيد والدسيسة.
- حبيسة المنزل، كصورة من صور حرمان التعاطي مع واقع المجتمع الذي يزخر بفرص التدريب الإنساني الحي، فضلاً عن التجهيل المتعمد الذي يسمح بتسلّط الخرافة على حساب تنمية ملكة التفكير لديها، والتصرف بحكمة وعقلانية.
- في المجتمع العشائري .. جسد يُقتل بالمصاهرة والإنجاب، وعقل يذهب طي النسيان. يقول د. حجازي في مرارة: “قيمتها كلها .. شرفها كله يركّز في عفافها الجنسي المتمثل سطحياً بغشاء البكارة. شرفها يتلخص في صفة تشريحية كما تقول د. نوال السعداوي، قد يولد بها الإنسان أو لا يولد”.
- ليست واستكمالاً لدمغة البيولوجية الأنثوية، فهي ليست امرأة إذا أثبتت عليها صفات النبوغ والتفوق والذكاء، إذ يعتبر المجتمع المتخلف صفات كهذه حكراً على الرجال ولا تمت للأنوثة بصلة! فإن حصل وتم إثبات دمغة بيولوجية ذكورية عليها، تصبح بموجبها (رجل) أو (أخت رجال) في عُرف ذلك المجتمع! من ناحية أخرى.
- تتساوى مع أولئك العمّال الخاضعين لأسيادهم من ذوي رؤوس الأموال، حيث يتم غرس قيم العفة والزهد والطاعة وتبجيل صاحب السلطة والاستماتة في الدفاع عنه، في حين يُتخم السيد بأصناف النعم وقد أبيحت له كافة، مع قيم الجشع والتملك والإفراط في كل شيء.
- تستلب كيانها الأنثوي بيديها حين تثور على العبودية المفروضة عليها بطريقة تحاكي فيها الرجل كنموذج للتحرر والانطلاق في الحياة. إنها محقة حين ترفض دورها كخادمة أو كآلة للتفريخ أو كجسد للمتعة، لكن قد ينحى هذا الرفض نحو إنكار حاجاتها البيولوجية أو صفاتها الأنثوية، أو بالإبقاء على صفاتها الأنثوية من غير حميمية.
- في “الاستلاب الجنسي” هي أشد قهراً مما هي عليه في “الاستلاب الاقتصادي”. فعندما تُختزل المرأة ككل في حدود جسدها كأداة للجنس، يصبح هو هاجسها الأول والأخير الذي يفجّر حولها قنابل الخوف، ابتداءً من سلامة غشاء البكارة في أسفله إلى مدى رضا الزوج الموعود عنه بأكمله!. لا تقل التشريعات الدينية والمدنية بطشاً في فرض الممنوعات حوله، كعورة، وكملكية للرجل، سواء كان أباً أو أخاً أو زوجاً. يقول د. حجازي في صراحة: “حتى الجماع يتحول في معظم الأحيان إلى فعل سيادة للرجل على جسد المرأة من خلال اثبات القوة القضيبية في العلاقات الجنسية المتخلفة المتسمة بالقهر، بدل أن يكون وسيلة للمتعة المتبادلة”.
- في “الاستلاب العقائدي” تواجه مأساتها الكبرى!. فمن خلاله تقنع بتفوق الرجل عليها وبدونيتها أمامه، وبالتالي تقبل بالرضوخ تحت وطأته. إنها على يقين تام بأنها كائن “قاصر، جاهل، ثرثار، عاطفي، لا يستطيع مجابهة أي وضعية بشيء من الجدية والمسئولية وبالتالي لا تستطيع الاستقلال وبناء كيان ذاتي لها”. في هذا النوع من الاستلاب يستفرغ الرجل عليها بلوثة من أساطير الأولين التي تحمّل حواء إثم الخطيئة الأولى “بضعفها واحتيالها ومكرها وغيّها. حواء مجسدة الآثام والشرور ومصدر كل غواية”.
- متضخمة النرجسية حين تتمسك بوظيفة الأمومة كحصن أوحد تحظى تحت سقفه بشيء من القداسة، حيث تشعر بأهمية جسدها الخصب المرغوب به دوماً، والمتكفّل بالإنجاب والحضانة والرعاية بالذرية ووالد الذرية!. ينتج عن تضخيم قيمة الأمومة خاصية التملك الأبدية، حيث يرتبط الصبي بأمه رباطاً قلّما يتفكك عند كبره، والذي قد يصبح به تابعاً لزوجته التي تتقن بدورها لعب دور الأم معه، وهكذا دواليك!.
………………. ومن خزي واقع التخلف هنالك المزيد!
أخيراً، إنه كتاب قد يواجه فيه أحدنا نفسه وقبل الجميع رزايا قهره وضعفه وخنوعه وتخلفه بموروثه الاجتماعي المسموم، غير أن أشدنا بؤساً هو حقيقة ذلك المغبون الذي تجرّع السموم كعدل وحق مستحق وما علم أنها فُرضت عليه قسراً وجوراً، فبات إنساناً مقهوراً من حيث لا يدري .. وعاش ومات عليها وكأنه ما عاش حياة قط! وبأسى، أرى بنات جلدتي هن الأكثرية .. ولا عزاء!.
كتاب بمثابة بحث علمي مستفيض .. يستحق القراءة وإعادة القراءة.
تم نشر مراجعة الكتاب على:
صحيفة المشرق العراقية – صفحة 10
ضفة ثالثة في موقع العربي الجديد
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (11) في قائمة ضمت (52) كتاب قرأتهم عام 2018 تتضمن كتابين لم أتم قراءتهما! وهو أول كتاب اقرأه في شهر مارس من بين ست كتب .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2017 ضمن (55) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
لقد كان هذا هو الكتاب الأول الذي أقرأه للمؤلف، والذي دفعني لاقتناء كتابيه: العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان / الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية.
تسلسل الكتاب على المدونة: 17
انك مها ، تضعين يدك على الجرح … كم تحتاج العقول البشرية للتحرر….. كنا وما زلنا نعيش في عالم مليء بأشكال العبودية…
وكل يصب غضبه على الأضعف ليتخلص من هدا الشعور المقيت…..نحتاج لأزمان عديدة حتى ندرك أننا ولدنا أحرارا ،،،،وعلينا أن نقاوم لنكون كدلك…..
وبين إدراك معنى (الحرية) ومقاومة جور (العبودية) .. يحيى المرء ويموت!