ومن الكتب وما هي عليه من القيمة الفكرية ما ترتقي بعقل القارئ وتجعله كمن قرأ مائة كتاب وهو في حقيقة أمره لم يقرأ منها سوى واحداً. هكذا أقول في حق هذا الكتاب رغم شائكية موضوعه وعمق تحليله، والذي إن دلّ، فعلى تفرّد الملكة الفكرية للمفكر البارز ادوارد سعيد (1935 : 2003) .. رحمه الله.
إنه كتاب بمثابة بحث موضوعي عن حركة (الاستشراق) التي اجتاحت الشرق مع بداية القرن الخامس عشر على أبعد تقدير وقبيل عصر التنوير الأوروبي، وهي الحركة التي ما برح الغرب ينحاز من خلالها ضد الشرق في آراء مسبقة مغرضة، تذّكيها النزعة العرقية والمطامع الاستعمارية في المقام الأول!. لم يكن هدف هذا التحايل الممنهج سوى فرض صورة نمطية شائهة عن الشرق تتناقلها الأجيال الغربية كحقيقة لا تقبل الجدال، وتمهّد للحركات الاستعمارية فيما بعد، إذ لم يألوا هؤلاء المستشرقين جهداً في نقل الصورة التي تعزز رقيّ الغرب المسيحي الحضاري مقابل تخلّف الشرق الإسلامي البدائي، تظهر في كتاباتهم التي زخرت بـ “نحن” مقابل “هم” .. “نحن” المستشرقين الأقوى الذين نكتب، و “هم” الشرقيين مادة الكتابة الذين لا يقدرون على تمثيل أنفسهم، ولا يقدّرون تاريخهم، ولا يستحقون ثرواتهم ولا يستطيعون صنع مستقبلهم .. تلك الصورة السلبية التي شابها العدوى، فطفق بعض العرب ينقدون (العقل العربي) كذلك في كتاباتهم!. على هذا، يتصدى المفكر العربي-الغربي لهذه الحركة في كتابه الأشهر (Orientalism: Western Conceptions of the Orient) الذي وضعه عام 1978، من خلال دراسة الاستشراق، نشأته وأسبابه ومراحل تطوره، ومن ثم الاستدلال بشواهد عديدة خلّفها أصحابها في دراساتهم الاستشراقية السابقة على فترات طويلة، بعضها جاء في قالب علمي مموه وبعضها جاء ضمنياً بين السطور. يأتي هذا التصدي بدافع التحليل المنهجي والحيادي، والذي يفضح بدوره الخطابات العامة والمهلهلة والساذجة والعدائية والتنميطية للاستشراق، ويطمس النظرة الغربية الفوقية-السطحية تجاه الثقافة الشرقية لاسيما العربية والإسلامية، ويدحض الأفكار الانحيازية لأولئك المستشرقين ككل، لما لها من تأثير قوي على الوعي الجمعي وعلى أصحاب القرار السياسي، ويدفع بدوره الشرقيين إلى تمثيل أنفسهم بأنفسهم في نهاية المطاف. بالإضافة إلى هذا، لابد من التأكيد على أن المفكر لم يأت بكتابه كدفاع عن الشرق أو عن الإسلام بقدر ما أتى متصدياً للهجمة الاستشراقية عليه، كما صرّح هو شخصياً في خواتيم كتابه.
على ذلك، ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول رئيسية أذكرها تالياً، تندرج تحتها عدد من المواضيع ذات الصلة:
- الفصل الأول: نطاق الاستشراق
هنا يتحدث المفكر عن نشأة الاستشراق الذي لم يتعدَ بضعة كتب مخطوطة تتصور أولئك الذين يسكنون بعيداً على الشرق والجنوب من أوروبا، ثم التطور الذي لحق به لاسيما كما يصّوره كتاب (وصف مصر) الذي سجل فيه فريق العلماء التابع للحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون ما رأوه وما سمعوه -سلباً بطبيعة الحال- والذي أصبح فيما بعد بمثابة حقائق ثابتة مجرّدة. يتطور الاستشراق أكثر ليطال الإسلام كدين معاد للغرب وكنسخة مشوهة عن المسيحية، الأمر الذي يستحضر جحافل الحجاج نحو الشرق، إما كمبشرين أو مستعمرين. يتصدى الشرقيون بلا هوادة لتلك الجحافل في نضال ثوري مستميت، الأمر الذي لم يتوقعه المستشرقون والذي دعاهم إلى التمسك بالصورة النمطية الأولى التي صوروها عنهم، والتي ما برح الإعلام الغربي يتناقلها كجوهر ثابت للفرد الشرقي وهو يقبع في بيئة جغرافية لا يتغير بتغير الزمان والمكان.
- الفصل الثاني: أبنية الاستشراق وإعادة بنائها
أما هنا فيتحدث المفكر عن فقه اللغة الذي يتطرق فيه إلى اللغات السامية وتأثيرها على تحضر الإنسان، وقد اعتبرها المستشرقون غير ناضجة لاسيما فكرياً. تستمر جحافل الحجاج في هذه المرحلة الانطلاق نحو الشرق، لكن في صورة علماء وباحثين وأدباء ومفكرين، وعلى الرغم من اختلاف المنهج المتبع عن كل واحد منهم، فقد بقيت الصورة النمطية عن الشرق كما هي، بحيث يعمم كل استنتاج جزئي يتأتى من خلال ملاحظات شخصية في قالب شمولي.
- الفصل الثالث: الاستشراق الآن
وهنا، يستتبع القالب النمطي الذي شكّله الأجداد من المستشرقين ليكسو الطابع العام الحديث، بل في صورة أكثر قناعة من خلال ما تم التأسيس عليه من ثوابت علمية ودراسات أكاديمية.
يحظى الكتاب بثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي رغم يقيني باستحقاقه تقييماً أعلى، لكن ذلك يعود لاستيعابي غير التام له. عليه، أسرد في الأسطر القادمة ما علق في ذهني بعد القراءة، وباقتباس في نص دافئ يحمل من الشرق لذاعته (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- يعتقد المفكر أن مسألة تفهّم العرب عموماً والإسلام خصوصاً هي مسألة يشوبها اللون السياسي بشكل كبير، وذلك لثلاث عوامل رئيسية، الأولى: التعصب الغربي الشائع ضد العرب والمسلمين، الثانية: الصراع العربي الإسرائيلي، والثالثة: غياب أي توجه ثقافي منفتح في الغرب لتقبل الشرق أو للتعاطي مع قضاياه بحيادية.
- يقدّم المفكر نموذجاً عن قدرة الغرب ليس فقط في تشكيل صورة ما عن الشرق بل فرضها، وذلك من خلال ما قدمه الروائي الفرنسي فلوبير كصورة للمرأة الشرقية بعد لقائه بغانية مصرية .. “ولكن هذه المرأة لم تتحدث مطلقاً عن نفسها ولم تصور قط مشاعرها أو تعبر عن وجودها أو تاريخها، بل إنه هو الذي تحدث باسمها وصوّرها، وكان هو أجنبياً، يتمتع بثراء نسبي، وكان رجلاً. وهذه جميعاً حقائق تاريخية مكّنته من فرض سيطرته ومكّنته لا من امتلاك كشك هانم جسدياً فقط بل أيضاً التحدث باسمها، واطلاع قرائه على جوانب (تمثيلها للمرأة الشرقية)”. لذا، يقول المفكر في ثقة بأن “العلاقة بين الغرب والشرق علاقة قوة وسيطرة ودرجات متفاوتة من الهيمنة المركّبة”.
- وعن العرب تحديداً، تسود الصحافة الغربية والفكر الشعبي العام صورة نمطية عنهم، يظهرون فيها معقوفي الأنوف يركبون الجمال ويقومون بأعمال الإرهاب، فاسقون ومرتشون “وأن ثروتهم التي لا يستحقونها إهانة للحضارة الحقيقية”. يقف خلف هذا التطرف الفكري عادة تصور في أحقية المستهلكين الغربيين -وإن شكّلوا الأقلية في العالم- في الامتلاك أو الانفاق أو الاثنين معاً، ذلك “لأن المستهلك الغربي بخلاف الشرقي .. إنسان حقيقي”.
- يتصدى بلفور من خلال خطاب ملتهب في مجلس العموم الإنجليزي عام 1910 ضد أعضاء طعنوا في جدوى الوجود الإنجليزي في مصر، إذ وإن كان الاحتلال ذي نفع سابقاً فإنه لم يعد كذلك مع تصاعد وتيرة المعارضة الوطنية المصرية، فيتساءل ويجيب قائلاً: “هل تعود ممارسة هذه الحكومة المطلقة من جانبنا بالخير على هذه الأمم العظيمة والتي أعترف بعظمتها؟ أعتقد أنها تعود بالخير عليها .. وهي ليست مفيدة لها وحدها، لكنها ولا شك مفيدة للغرب المتحضر برمته. لسنا في مصر من أجل المصريين فقط، وإن كنا هناك من أجلهم، فنحن هناك أيضاً من أجل أوروبا كلها”. يحلل المفكر ابتداءً شخصية بلفور (الإنجليزي) بطبيعة الحال، واستخدامه ضمير الجمع (نحن) كرمز للرجل الأقوى والأرقى والأثقل مكانة، وبأنه خير من يمثّل أمته، وخير متحدث رسمي باسم العالم المتحضر. نعم، إنه لم يتحدث بلغة الشرقيين لعدم إجادته لغتهم فحسب، بل لعلمه -رغم هذا- بتاريخهم وبتطلعاتهم وبتوقعاتهم من رجل مثله كمتحدث باسمهم، والذين إن تمكنوا من الحديث فسيأتون بمثل ما قال “ومن ثم فلن يكون لقولهم فائدة تذكر. ألا وهو أنهم ينتمون إلى جنس محكوم، ويسودهم جنس يعرفهم ويعرف مصلحتهم خيراً منهم”.
- ينقل المفكر رأي المؤرخ والمستشرق الفرنسي المتعصب أرنست رينان في مبحثه عن (الإقامة في الشرق ودراسته)، وذلك من خلال وضع الشرق في إطار مقارن يأخذ طابع التقييم أكثر من طابع الوصف، فيقول: “يرى المرء أن الجنس السامي يبدو لنا جنساً ناقصاً في كل شيء، بسبب بساطته. وإذا جرؤت على استخدام هذا التشبيه قلت أنه بالمقارنة بالأسرة الهندية الأوروبية، يشبه مقارنة الرسم بالقلم الرصاص باللوحة الزيتية، أي أنه يفتقر إلى التنوع وإلى الرحابة وإلى الثراء، وهي الصفات اللازمة للكمال. إن الأمم السامية تشبه الأفراد من ذوي الخصب المنخفض إلى الحد الذي يجعلهم بعد طفولة رائعة لا يحققون إلا مستوى متواضعاً من الفحولة، فلقد بلغت تلك الأمم ذروة ازدهارها في عصرها الأول ولم تتمكن بعدها قط من تحقيق النضج الحقيقي”.
- يرجع المفكر إلى كتاب (النهر الذهبي إلى الطريق الذهبي)، ليستدل على الاختلاف الضمني ما بين المستشرق الأقوى والشرقي السلبي، ففي حين يظهر الأخير في صورة موضوع ثابت يستوجب التعرّف والفحص، يضطلع الأول بالدور ويشرع بالكتابة عنه!. يسفر عن هذا جلياً أساس العلاقة السلطوية بين الطرفين التي تظهر في عدد من أشكال النشاط الإنساني بعضها ديني وبعضها تجاري وبعضها تاريخي، غير أن أبرزها يتخذ الطابع الجنسي. يقول: “نرى أن ارتباط الشرق بالجنس ما يفتأ يظهر بوضوح غريب، فالشرق يقاوم مقاومة اية عذراء ولكن الباحث الذكر يفوز بالمكافأة حين يدخل بها، ويخترق العقدة العويصة على الرغم من (صعوبة المهمة) و (التوافق) هو نتيجة الانتصار على الدلال العذري، ولا يمثل بأي حال من الأحوال تعايشاً بين أنداد. وعلاقة السلطة المضمرة هنا بين الباحث ومادة موضوعه لا تتغير أبداً، فإنها ترجّح دائماً كفة المستشرق، فالدراسة والفهم والمعرفة والتقييم تتستر جميعاً بقناعة الملاطفة لتحقيق (التوافق) ولكنها أدوات غزو”.
- …… ومع استمرار القراءة، تتجلى ماهية الاستشراق من خلال لغة أصحابه الخاوية من أي رأي موضوعي، المتخمة بالحشو اللغوي والكليشيهات الفارغة والأفكار المقولبة والعدوانية السافرة والتعميمات الكاذبة والاعتقادات الساذجة وقصر النظر.
- ينتهي المفكر أخيراً بعرض رأي واقعي عن نفوذ الحقائق السياسية في نهاية الأمر كـ (إيديولوجيا) تغذّي البحث العلمي، والتي لو تم معها التغاضي عن التفرقة الاستشراقية ما بين (نحن) في الغرب و (هم) في الشرق، فسيبقى الفرق بين الشمال والجنوب والأغنياء والفقراء والبيض والسود … قائم. إن هذا الوضع يعمّق من تلك الفروقات، بل ويكسوها بصفة الخبث الدائم الذي تتدهور معه حيادية البحث العلمي التقدمي، فلا يعود يُرتجى منه فائدة تذكر.
- يؤكد المفكر قبل الختام حقيقة صادمة بأن “فشل الاستشراق فشل إنساني بقدر ما هو فشل فكري، إذ أنه حين دُفع دفعاً إلى اتخاذ موقع معارضة لا يمكن اختزاله إزاء منطقة من مناطق العالم يعتبرها أجنبية غريبة عنه، قد عجز عن التعاطف أو التوحد مع الخبرة البشرية، بل وعجز عن إدراك أنها خبرة بشرية”. ويخلص بتوصية صادقة يقول فيها: “الواجب أن نتجنب مهما يكن الثمن إضفاء صورة شرقية مسبقة على الشرق في كل خطوة نخطوها، وسوف يترتب على هذا قطعاً تنقيح المعرفة والتقليل من غرور الباحث. ولو غابت صورة (الشرق) المسبقة لجاء من الباحثين والنقاد والمفكرين والبشر من لا يولون لضروب التمييز العنصري والعرقي والقومي الأهمية التي يولونها للجهد المشترك في سبيل تعزيز التواصل والترابط البشري”.
تعرض شبكة المعلومات العالمية مواد مقروءة ومسموعة كثيرة للكتاب الذي حظي بسمعة عالمية كبرى وتُرجم للعديد من اللغات، أهمها حديث المفكر نفسه في لقاءاته المتلفزة، والحلقة الخاصة عنه في برنامجي المفضل (خارج النص) على قناة الجزيرة. لقد قرأت للمفكر كتاباً سابقاً بعنوان (خيانة المثقفين) والذي جاء كتجميع لمقالاته الأخيرة لاسيما تلك التي تتمحور حول القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي.
كقارئة اعتبرني نهمة .. تُصبح (الكتب) التي أتوقع انضمامها إلى مكتبتي إحدى الفوائد التي أرتجيها من أي كتاب أقرأه. لم يخيّب هذا الكتاب ظني بالطبع، فقد جاد بالآتي: كتاب/ ترنيمة محمد وكتاب/ ديوان الغرب والشرق، لمؤلفهما: جوته – كتاب/ وداع المضيفة العربية وكتاب/ المستشرقون، لمؤلفهما: فيكتور هوجو – كتاب/ المنتخبات العربية، لمؤلفه: سلفستر دي ساسي – كتاب/ عبقرية الأديان، لمؤلفه: ادجار كينيه – كتاب/ الحج إلى المدينة ومكة، لمؤلفه: فرانسيس بيرتون – كتاب/ القانون المحمدي، لمؤلفه: ادوارد ساخاو – كتاب/ تغطية الإسلام، لمؤلفه: ادوارد سعيد – كتاب/ تاريخ كمبردج للإسلام.
ختاماً، إن هذا الكتاب بحق (رقم صعب) في أي قائمة معدّة للقراءة .. وقد يتطلّب القراءة مرات أخرى لترسيخ الحجة والغاية منه، وتبني رأيه الحيادي .. والإنساني.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (10) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها و ثلاثة أعدت قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن حالت ظروف الحياة دون تحقيقه .. وهو آخر كتاب اقرؤه ضمن ستة في شهر يونيو، وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب في يوليو من عام 2020، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
ومن فعاليات الشهر: لا يوجد شيء محدد غير أنني استغرقت خلال الأشهر الماضية في عمل مكثف، فجاء هذا الشهر كمتنفس بعد الضيق المصاحب للتوقف عن القراءة.
تسلسل الكتاب على المدونة: 292
التعليقات