في خضم ما يواجه الأمة العربية من أزمات وتهديدات وتحديات تتسارع وتيرتها بشكل ملحوظ لا سيما مع أحداث الآونة الأخيرة، مقابل ما تشهده من تراجع وانحدار وانقسام وتبعية وما يلحق بها بالضرورة من تداعيات لا تُحمد عواقبها، يأتي هذا الكتاب في وقته ليلبي طموح الإنسان العربي الذي تُعقد عليه الآمال في إعادة الربيع الغائب لأوطانه ضمن المسار الصحيح، وضمن ترسيخ مفهوم (الأمن الوطني) كحاجة أساسية للفرد وللمجتمع وللوطن، كل على حد سواء.
لذا، يضع الكتاب المعني بالأمن الوطني اللواء المتقاعد والخبير السياسي والعسكري والاستراتيجي (د. فايز محمد الدويري 1952)، والذي ذاع صيته بشكل لافت مؤخراً من خلال التحليل العبقري الذي تناول فيه عمليات طوفان الأقصى على شاشة قناة الجزيرة الإخبارية، إضافة إلى تخصصه في صراعات الشرق الأوسط ككل على رأسها القضية الفلسطينية. تعرض سيرة اللواء الذاتية مسارين، عسكري وآخر أكاديمي! فبالإضافة إلى المناصب التي تقلّدها في الجانب العسكري، كآمر كلية الأركان الملكية الأردنية، ومدير سلاح الهندسة الملكي، وقائد هندسة الجيش، وقائد كتيبة الهندسة الملكية، فقد عمل كمحاضر في المعهد الدبلوماسي، وكباحث ومحلل استراتيجي في كلية الدفاع الوطني الأردني. تعود هذه الخبرة العملية لذخيرة تحصيل أكاديمي مرموق، فاللواء يحمل درجة الدكتوراة في فلسفة أصول التربية مع درجتين في الماجستير، إحداهما في العلوم والفنون العسكرية المتقدمة والأخرى في العلوم الإدارية والعسكرية، كما يحمل دبلوم عالٍ في الدراسات العملياتية، وآخر في اللغة الإنجليزية، إضافة إلى شهادة البكالوريوس في العلوم الإدارية والعسكرية، وأخرى في الدراسات الاستراتيجية. لا يتوقف نبوغ اللواء عند هذا الحد، بل امتد ليشمل عدداً من الدراسات التي نشرها، منها ما يتعلق بالعلوم العسكرية، والعقيدة القتالية، والتقييم الاستراتيجي وآلية صنع القرار، ودور القوات المسلحة في التنمية الوطنية، إضافة إلى الورقة العلمية المعنية بأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، والأخرى المعنية بدور المؤسسات التربوية في تحقيق الأمن الوطني.
يعرض الفهرس ثلاثة فصول يتفرّع عنها عدة مباحث، ويحرز معها الكتاب ثلاثة من رصيد أنجمي الخماسي .. واللواء يهديه أولاً لروح والديه وهو خافضاً جناحيه إجلالاً، وقد تلقّى عنهما الالتزام الديني والانتماء الوطني، ثم إلى كل عربي حر تبنّى ماضي وحاضر ومستقبل أمته العربية التي هي -وإن طالت كبوتها- خير أمة أخرجت للناس. والمحتوى هو:
- الفصل الأول: الدولة والمفاهيم الوطنية / البيئة الوطنية
- الفصل الثاني: الأمن الوطني: مفهومه ونظرياته ومستوياته وخصائصه ومقوماته وسياساته / الأمن: الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي، الإنساني، الجغرافي، السياسي، العسكري، البيئي / الإرهاب في العصر الحديث، والمقاومة المشروعة، والعنف السياسي
- الفصل الثالث: التربية الوطنية والتنشئة السياسية والمؤسسات التربوية / دور الجامعات الرسمية في تعزيز مفهوم الأمن الوطني
ينشأ مصطلح (الأمن الوطني) مع نشأة الدولة الأمة في القرن السابع عشر الميلادي حسب معاهدة وستفاليا، وهذا ما يقود اللواء ابتداءً لتناول البيئة الوطنية في الفصل الأول، وتحديد مقوماتها وتوضيح الحالات التي مهدّت لعمليات إعادة بناء الدولة، إضافة إلى تسليط الضوء على المفاهيم الوطنية التي تعني في الأساس بتنشئة المواطن الصالح. أما الفصل الثاني، فقد خصّه اللواء لموضوع الكتاب الرئيسي، حيث تناول الأمن الوطني من ناحية تطور مفهومه التاريخي، وأهم ما جاء في تعريفاته وفي نظرياته المتباينة، إضافة إلى خصائصه العامة التي تُقاس ضمن مقومات (الحرية والعدالة والمساواة)، والتي تضمن تحقيق الأمن الوطني من خلال مظاهر الانتماء والولاء للوطن. كما تناول الأبعاد المرتبطة بالأمن الوطني، إنسانياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وبيئياً وجغرافياً وسياسياً وعسكرياً، ما يضمن للدولة البقاء والاستمرار في مواجهة تحدياتها الداخلية والخارجية. ومن هنا يتناول اللواء ظاهرة الإرهاب لا سيما في ظل التوجه العالمي نحو إلحاقه بالعرب والمسلمين تحديداً، فيتطرّق إلى الرأي القانوني المعني بتعريفاته، وإلى الفصل بينه وبين المقاومة المسلحة وحق الشعوب المحتلة في النضال ومواصلة الكفاح بالوسائل التي يضمنها القانون الدولي ويكفل لها النصر ونيل الحرية، كما هو الحال مع الشعب الفلسطيني. وبما أن للتربية دور مؤكد في الحفاظ على التراث وتوارثه عبر الأجيال، باعتبارها تنشئة وتنمية وإعداد للحياة تختص تحديداً في تربية عقل الفرد وإعداده ليكون عضواً صالحاً ضمن جماعة ذات نُظم ومفاهيم وتقاليد، يركز اللواء في الفصل الثالث والأخير على دور المؤسسات التربوية في تعزيز الأمن الوطني، وأهمية تهيئتها وتعديلها وتأهيلها من أجل الاضطلاع بدورها الحقيقي في إعداد ذلك المواطن الصالح، والتي تمثّلها في العموم منظومة الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد والرفاق والأندية ووسائل الإعلام، كما يتطرق إلى فضيلة ربط الدنيا بالآخرة من خلال موضوع التنشئة السياسية في الإسلام، وركيزة العقد الاجتماعي التي لا تقوم بين الحاكم والمحكوم فحسب، بل بين الحرص على طاعة الله وتطبيق شرعه. وقد ربطت بعض تعريفات التنشئة السياسية بالتنشئة الاجتماعية، من حيث زرع القيم المطلوبة لدى الفرد والكفيلة بصقل شخصيته وتعزيز سبل دفاعه عنها.
وبينما تناول المؤلف المملكة الأردنية ومرافقها العسكرية والتربوية كنموذج في نطاق بحثه، فإن النتائج قد لا تختلف حال إسقاطها على أي قُطر عربي آخر، لما يجمعها كافة من تاريخ مشترك وتحديات حاضرة وتطلعات مستقبلية.
ومن الكتاب، أدوّن أكثر ما ورد فيه من جوانب موضوعية، وباقتباس في نص جاد (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- ليست الوطنية سوى سمة الانتماء للوطن! فانطلاقاً من مبدأ المواطنة وروح الانتماء، يتأسس ذلك الشعور الوطني للحقوق المشتركة بين المواطنين، الذي يؤسس بدوره مرجعية جديدة تقوم على الانتماء للوطن وحده، تجبّ ما دونها من المرجعيات .. عرقية أو طائفية أو دينية أو مذهبية. غير أن هذه الوطنية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالموقف تجاه الوطن، لا وحسب في مواجهة خطر خارجي، بل في موقف داخلي يمكّن من مواجهته فعلياً. يوضح اللواء في الفصل الأول هذا الموقف الذي يمسّ الأمن الوطني قائلاً: “إنه يتعلق بسلامة التكوين الوطني من أجل مواجهة ذلك الخطر. بمعنى أن تدمير التكوين الاجتماعي والحراك السياسي، وبناء مجتمع هش، كلها مسائل تجعل المواجهة مع الخطر الخارجي مستحيلة، ولهذا فهي مضادة للوطنية، فالوطنية هي تحضير كافة القوى من أجل مواجهة جادة مع كل خطر خارجي“.
- يُسهب اللواء في حديثه عن الأمن الوطني في الفصل الثاني، فبينما يحدد مستويات الأمن بين فردي وقومي ودون إقليمي وإقليمي ودولي، فإن خصائصه تنطوي على النسبية والمرونة والوضوح والشمولية. ومع منظومة المفاهيم المتباينة التي تناولت صياغة الأمن الوطني، فقد أمكنه استخلاص أربع ركائز أساسية لها، هي: “إدراك التهديدات والتحديات الداخلية والخارجية. وضع الاستراتيجيات اللازمة لتنمية قوى الدولة والانطلاق المؤمن لهذه القوى. توفير القدرة على مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية لبناء قوات مسلحة وقوى أمن داخلي قادرة على التصدي والمواجهة لهذه التهديدات. إعداد السيناريوهات واتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهة التهديدات والتحديات على أن تتصاعد هذه التحضيرات تدريجياً مع تصاعد التهديدات والتحديات سواء كانت داخلية أم خارجية“.
- وبينما يستشهد اللواء برأي الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر القائل “إذا كانت التربية هي الإعداد الصالح للحياة العامة، فالتربية الوطنية هي إعداد المواطن الصالح”، فهو يجعل من هدف التربية العام تقوية انتماء الفرد الوطني أولاً، ومن ثم توجيهه نحو الإيمان بتوجهّات وطنه وإخلاصه لها، الأمر الذي سيسهم قطعاً في توليد شعور بالسعادة والحماسة نحو الدفاع عنه بكل ما يملك، والذي يعزز في نهاية المطاف قاعدة الأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي. بيد أن المؤسسات التربوية هي الأكثر قدرة على تحقيق الهدف الاستراتيجي في تطوير المجتمع وتحقيق التنمية الوطنية الشاملة والتقدم في شتى مجالات الحياة، وإعداد آليات التنشئتين الاجتماعية والسياسية بقيمها ومبادئها ووسائلها المتفقة ومصالح الدولة. لذا، يلخّص اللواء أهم الأهداف المتعلقة بالتربية الوطنية في “تنمية الشعور بالقومية العربية والإيمان بها وبأصالتها وفضلها على الحضارة الإنسانية. تنمية شعور المواطن بوطنه وتكوين عاطفة الانتماء لهذا الوطن. تنمية الشعور بحق المواطنين في الفرص المتكافئة والمساوة الاجتماعية والسياسية. تنمية الوعي الاجتماعي والشعور بأهمية عادات وتقاليد ونظم وقيم الجماعة العربية. تنمية الوعي الاقتصادي والشعور بأهمية الاقتصاد والوطن والمنتجات الوطنية والمستقبل الاقتصادي الأفضل للوطن والمواطن. تبصير المواطن بالأخطار التي تهدد وطنه وتحصينه ضد التسلط الحزبي والطائفي والإقليمي. تربية السلوك الوطني على أساس التعاون والعمل المشترك، وتحمل أعباء الآخرين، وإيثار الصالح العام، واحترام حقوق الغير وآرائهم وعواطفهم. تربية الضمير العربي الذي يوجه المواطن العربي في كل ما يؤخذ ويدع، مستهدياً بمصالح الأمه ومستقبلها“.
وفي ختام هذا التحليل الموضوعي لمفهوم الأمن الوطني الذي حُق له أن يؤخذ بعين الاعتبار، فيُعمم ويُدرّس، إذ “ولا يُنبئك مثل خبير”، فإنه سيحفّز لا محالة عزيمة الشباب العربي الذي عقد عليه اللواء الأمل في مقدمة كتابه .. وقد عظّم موقفه الشرفاء حين تلقّف شامخاً صيحة المجاهد في كتائب عز الدين القسام المدوية في غزة بـ “حلل يا دويري”، فحلل بقول أمضى من السيف وأثلج صدور قوم مؤمنين .. في الوقت الذي حلل فيه، فأسمع وأوجع قوم آخرين .. فلا نامت أعين الجبناء!
تم نشر مقالة عن الكتاب في جريدة الشرق القطرية: جزء1 جزء2
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (32) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً بحق في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها فيه، وهو في الترتيب (2) ضمن قراءات شهر ابريل .. وقد حصلت عليه من متجر (نيل وفرات) الإلكتروني في فبراير العام الحالي، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
وعلى رف (السياسة) في مكتبتي، عدد متزايد من الإصدارات، فضلاً عن تلك القديمة التي انضمت إليها من مكتبة العائلة .. أذكر منها: (لعبة الأمم) – تأليف: مايلز كوبلاند / (تهويد المعرفة) – تأليف: ممدوح عدوان / (نساء في حياة آل القذافي: من الحياة النسائية والسرية لمعمر القذافي وأولاده) – تأليف: خليل عبد السيد / (أعمدة الحكمة السبعة) – تأليف: توماس إدوارد لرونس / (من يتحدث باسم الإسلام؟ كيف يفكر حقًا مليار مسلم؟) – تأليف: جون إسبوزيتو و داليا مجاهد / (المكتبة الجهنمية: في أدبيات الديكتاتورية) – تأليف: دانيال كالدر / (مذكرات صحفي استقصائي) – تأليف: سيمور هيرش / (سورية: الدولة المتوحشة) – تأليف: ميشيل سورا / (إمبراطورية شريرة: ما فعلته بريطانيا في الهند) – تأليف: شاشي ثارور / (الفلسطينيون والتحرر: موقف مسيحي) – تأليف: خريستو المر / (فن الحرب) – تأليف: سون تزو / (كيف تطعم الديكتاتور؟) – تأليف: ويتولد زابلوفسكي / (عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث) – تأليف: نعومي كلاين / (الصهيونية والحضارة الغربية) – تأليف: د. عبدالوهاب المسيري / (أفيون الحمقى: بحث في المسألة المؤامراتية) – تأليف: رودي رايشطات / (إسرائيل: دولة بلا هوية) – تأليف: عقل صلاح وكميل أبو حنيش / (من يهودية الدولة حتى شارون) – تأليف: عزمي بشارة / (فلسطين أرض الرسالات السماوية) – تأليف: روجيه غارودي
من فعاليات الشهر: يقابله من العام الهجري 1445 عيد الفطر المبارك، وقد قرأت الكتاب في ثاني أيامه.
تسلسل الكتاب على المدونة: 482
التعليقات