في هذه المذكرات التي صُنفت ممنوعة، تسجّل الرحالة الإنجليزية ما عاينته حياً أثناء رحلتها لأرض فلسطين أوائل القرن العشرين. وضد المحاولات الملتوية في تخصيص أرض بلا شعب أو شعب بلا أرض، كما في حال الهنود الحمر السكان الأصليين للأمريكتين، تقف هذه الرحالة، لتؤكد من حيث لا تدري، فلسطينية أرض فلسطين، وأحقية الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، حيث تنقل ملاحظاتها الدقيقة تفاصيل حياتهم اليومية، وتوثق الصور التي التقطتها تجذّرهم في البادية والريف والمدن العربية، ما تدحض به زيف الادعاءات القائلة بخواء أرض فلسطين قبل وصول العصابات الصهيونية إليها .. أو كالصحراء الجرداء -كما يصفونها- والتي كانت في استقبالهم، فزرعوها وعمروها واستوطنوها.
إن هذه الرحالة كانت على قدر من الشغف بأرض فلسطين بحيث تناولت معالمها في قصّ تفصيلي لطيف، فتحدثت عن المستوصفات والمستشفيات والمدارس والمعاهد والمساجد والكنائس والأسواق والمنازل، التي اتخذت جميعها طابع المعمار العربي الأصيل والفريد في بنيانه وزخرفته. تتحدث كذلك عن سحر الناس هناك، وتعيش تراثهم الشعبي، وتستمع لأشعارهم، وتؤخذ بجمالهم النادر وبعقليتهم المحيّرة، ويلفتها أثوابهم الطريفة والغريبة والجذابة، ولا تفتأ تطري لطفهم وكرمهم وحسن ضيافتهم والمثال الحسن في احترام النساء .. وكثير مما يحكي بشغف ويصف ذلك الماضي المفقود!
وهي من الحيادية، لا تغفل عن وصف النسيج الاجتماعي والعرقي لسكان فلسطين، حيث -وقبل وصول تلك العصابات الصهيوينة- كان اليهود العرب يجاورون المسلمين والمسيحيين معاً على حد سواء، ويمارسون بكل حرية طقوسهم واحتفالاتهم في منازلهم ومعابدهم، وقد كانت لفتة طيبة أن تضمّن الرحالة مشاهداتها بين المدن والمواقع والآثار آيات من الإنجيل والعهد القديم. لذا، “لا يخلو هذا الكتاب من تسليط الضوء على ما جمع بين الأديان الثلاثة من عادات، ليس لأنها عادات دينية، بل لأنها تقاليد عربية مشتركة اتسم بها أهل هذا البلد آنذاك”.
تصف الرحالة الإنجليزية رحلتها إلى الأرض المقدسة في مذكراتها الممنوعة، من خلال ثمانية فصول، ينال بها الكتاب اثنتان من رصيد أنجمي الخماسي .. تظهر كما يلي:
- الفصل الأول: عند عتبة يافا
- الفصل الثاني: بريق الأرض المقدسة
- الفصل الثالث: حياة الصحراء
- الفصل الرابع: حياة القرية
- الفصل الخامس: حياة المدينة
- الفصل السادس: الحياة الدينية
- الفصل السابع: الأحوال الاجتماعية في الأرض المقدسة
- الفصل الثامن: الأماكن المقدسة في الأرض المقدسة
ومنها، وقد جاءت ترجمة المذكرات متقنة من النصّ الأصلي (Things Seen in Palestine – By: A. Goodrich-Freer) وتوجّت عبارة (وثيقة تُنشر لأول مرة) غلاف الكتاب .. أدوّن ما علق في ذهني بعد القراءة، وأقتبس شذرات (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- في (الفصل الأول: عند عتبة يافا)، ترى الرحالة أن رجل بيت لحم لا تخطئه العين لبنيته القوية “وهو يرفل في عباءته السوداء، مزخرفة الياقة بخطوط ذهبية أو فضية. أما زوجته فتتمتع بجسد مكتنز وتتميز بثوبها الطويل وقبعتها القرمزية المزينة بقطع نقدية يتدلى منها غطاء رأس طويل”.
- ثم وفي نهاية الفصل، تتساءل: “هل ثمة بقعة أخرى على الأرض تحمل هذا التأثير المغناطيسي في الجنس البشري؟”. لم يأتِ تساؤلها من فراغ، إذ أن “مقدسات أورشليم عزيزة على المسيحيين واليهود والمسلمين”، وأن فلسطين تحديداً يسهل الوصول إليها من كل بقاع العالم! فعبر بوابة البحر الأحمر يلج القادمين من أفريقيا وأستراليا، ومن الهند والصين كذلك، “أما الأمريكي فيعرّج عليها في طريقه الدائري حول العالم”. ومع توسع الدين الإسلامي، يولي المؤمنون وجوههم شطر القدس للحج، كعتبة مقدسة ثانية بعد مكة، وهم الذين يؤمنون بعودة يسوع المسيح في آخر الزمان “ليحاكم الأمم في الوادي الذي يقع بين شرق حائط المعبد وجبل الزيتون”. أما اليهودي الذي كلما صلى، يمم وجهه صوب أورشليم، فيرجو أن يموت في “وادي يهوشافاط” حيث يُبعث عرق اليهود هناك حسب اعتقاده، حيث أن “فلسطين في نظر اليهودي لا تمثل سوى ماضيهم، وكذلك مستقبل عرقهم”.
- أما في (الفصل الثاني: بريق الأرض المقدسة)، فتنقل الرحالة عن (جون موراي) وهو أحد أهم ناشري الكتيبات الإرشادية للرحلات حول العالم قوله: “فلسطين هي أفضل كتيب إرشادي إلى الإنجيل”، بينما تنقل عن (كارل بادكر) وهو ناشر ألماني بارع في صناعة تلك الكتيبات، قوله: “الإنجيل هو أفضل كتيب إرشادي إلى فلسطين”. تنقل الرحالة هذا وهي تؤكد بأن المسافر العادي والقارئ التقليدي والمتعلم البسيط للإنجيل، لا بد أن يجد كل منهم في فلسطين “مورداً لا ينتهي من الإشارات واللذات”.
- ثم تنشر الرحالة في (الفصل الرابع: حياة القرية) صورة التقطتها في (يزرعيل) أو (مرج ابن عامر) كما يسميها العرب، يظهر فيها منزل للسكان الأصليين بالقرية المتوطنة في (يهودا)، يبدون وهم يمارسون حياتهم المنزلية في الهواء الطلق بكل بساطة، حيث يتم اللجوء للأكواخ في الشتاء لا سيما للنوم. أما (يزرعيل) فقد وردت في الإصحاح 21 من (سفر الملوك الأول): “وكان لنابوت اليزرعيلي كرم في يزرعيل قريب من قصر أخاب ملك السامرة”.
- وحين تنتقل الرحالة إلى (الفصل الخامس: حياة المدينة)، وتعرض فيه ملامح البيوت القديمة بواجهاتها المنحوتة وأرضياتها المطعّمة بالرخام والحمامات التي توفّر الماء الساخن والبارد معاً، تقول: “السفر يمنح صاحبه سعة في المفاهيم! من النقاط المثيرة، سماع النقد المشرقي بشأن نقص النظافة عند الأوروبي! الفرنجي لا يكتفي فقط بتناول الطعام دون غسل يديه، بل حين يفعل يغسلها في ماء متسخ .. المشرقيون لا يفكرون أبداً في وضع أياديهم داخل مياه راكدة في حوض، بل يصبون الماء الجاري لغسلها. ربما تلتقي في القطار من أورشليم إلى يافا، على سبيل المثال، جماعة من آباء فتيان يرتادون مدرسة مسيحية أوروبية ذاهبين إلى المدرسة لجلب أبنائهم إلى الحمام ليتأكدوا من نظافتهم من وقت إلى آخر بغض الطرف عن كل معوقات محيطهم“.
- ثم تصف الرحالة في (الفصل السابع: الأحوال الاجتماعية في الأرض المقدسة) روح التقبل والتعاطف الذي تبديه الحكومة التركية تجاه المختلفين عنها ديناً وعرقاً، والذي -في رأيها- على الأمم الأكثر تطوراً محاكاتها! فقد سمحت بمكوث الإرساليات الفرنسيسكانية في فلسطين والمتواجدة أصلاً منذ القرن الثالث العاشر، كذلك قامت بإعادة إحياء البطريركية مع العديد من الأديرة التابعة للإرساليات الدينية، بما فيها المدارس والمستوصفات بمعلميها وممرضيها ومديريها، مضافاً إلى ذلك كله الجمعيات الإنجليزية والأمريكية التبشيرية، وما كان يتملّكه الأوربيين البروتستانت والكاثوليك من مدارس ومستشفيات راقية هناك، في كل أنحاء البلاد. ثم تعلق قائلة: “الدستور الجديد الذي منح الحرية للرعايا الأتراك أضاف إليهم قليلاً مما يتمتع به بالفعل المهاجرون من الدول الأجنبية. حتى إنجلترا نفسها، ملجأ المنبوذين في العالم، لا تستطيع أن تظهر كرماً أو حرية أعظم. لذلك نرى ما تدين به المسيحية للمسلم، وما يمكن أن تتعلمه الحضارة من الأقل تحضراً، وما تدين به أوروبا لكرم التركي. حقاً، السفر يميل إلى توسيع المفاهيم“.
- ختاماً، وبعد أن تغادر الرحالة فلسطين عبر السكك الحديدية، صوب دمشق .. أقدم مدينة في العالم والتي باتت تسطع بنور المدنية، تغيب في مخيلتها قليلاً، لتنتبه وتعود للواقع وتصف اللحظة لقارئها قائلة: “ولكن في لحظة ما تعود إلى «الشرق الذي لا يتغير»، وتفكر في ألعازر الدمشقي، وكيل إبراهيم، أو تفكر في نعمان السوري، أو في القديس بولس، أو أخيراً تفكر في العظيم والكريم صلاح الدين، الذي نسميه في فصولنا المدرسية صلادين، يغطي قبره تذكارات من جنود آخرين يعرفون شيئاً عن عظمة قلبه مثل السير والتر سكوت. كما وضع الإمبراطور ويليام الثاني إكليلاً من الزهور فوق قبره، وهو آخر التذكارات. هنا على أرض فلسطين تلتقي كُل الأجيال. في بلد مشرق الشمس ومغربها، نجد آثار أولئك من عرفوا الأرض، وأحبوا البحث في أسرارها، لتعرف أن الشمس قد غربت لتشرق مرة أخرى“.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (146) ضمن (150) كتاب قرأتهم في عام 2024، وهو في الترتيب (16) ضمن (20) كتاب قرأتهم في ديسمبر .. وقد حصلت عليه من (مكتبة ألف) خلال الشهر، مع سبعة كتب آخرين!
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى ملاحقة الساعات لإتمام قائمة القراءة .. والتي تطول عادة في آخر شهر من كل عام!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: سقوط رجل/ حياة الكتب السرية / النوم إلى جوار الكتب / عودة ليليت / كتاب الجيم / زيارة لمكتبات العالم / نساء رفضن عبادة الرجل / وقائع من حياة فتاة مستعبدة / النوم إلى جوار الكتب / الغيرة والخيانة / في مديح القارئ السيء / On Bullshit
وعلى رف (التاريخ) في مكتبتي، عدد جيد من الإصدارات .. منها ما نشرت على مدونتي!
تسلسل الكتاب على المدونة: 596
التعليقات