والفلسفة الرشدية .. كان لها شأن! فكما لقي ابن رشد نصيبه من العداء عند بني جلدته، وقد وصم بالزندقة ونُبذ ونُفي وأحرقت كتبه على مرأى عينيه، لمزاعم معارضة فلسفته روح الفكر الإسلامي، فقد دعت فلسفته عدد من مفكري أوروبا إلى مناصبته العداء أيضاً، فلاقى نفس التعنت الديني والفكري من الجانب المسيحي رغم ما حظي به من تمجيد عن إسهاماته الفكرية في عصر التنوير الأوروبي، لا سيما وأن الفضل يعود إليه في إدخال الفكر الإغريقي إلى أوروبا لأول مرة، من خلال شروحاته لفلسفة أرسطو التي تمت ترجمتها من العربية إلى اللاتينية. وقد كان القديس توما الأكويني من أشد المناصبين لابن رشد العداء لا سيما في (النظرية العقلية) التي قال بها ونقلها عن أرسطو، يليه المؤرخ الفرنسي أرنست رينان الذي عدها ضرب من الجنون، مع عدد من الرسامين الذين أصروا على تشويه ملامحه في لوحاتهم وتخصيص مكانة دونية يحتلّها عادة أسفل قديسهم المذكور.
وقبل البدء في تدوين المراجعة، يطيب لي عرض جانب من سيرة الفيلسوف كما ينقلها التراث الأدبي العربي، في الأسطر التالية:
- هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد (520-595 هـ / 1126-1198 م)، سليل عائلة ذاع صيتها في مهنة القضاء، إذ تقلّد أباه وجدّه من قبل منصب القضاء في قرطبة، وقد كان الأخير يضطلع بشؤون السياسة بين مراكش والأندلس، ولا تزال مكتبة باريس تحتفظ بمخطوطاته في الفتاوى، وقد توفي قبل ولادة حفيده بشهر على الأرجح من الأقوال.
- يُنصف القدر ابن رشد، حيث ولد وعاش في قرطبة حاضرة الدنيا، في أوج ازدهار حركة العلم والفكر والعمران والفنون والآداب، ففي حين كانت تُذكر بغداد والإسكندرية وروما، كانت قرطبة تصطف بفخر إلى جانب أخواتها تلك في المجد والقدر والمكانة.
- أكبّ ابن رشد على الدرس والبحث منذ صباه، ولم يصرفه عن ذلك سوى يوم زواجه، ويوم وفاة والده، وقد تولى منصب القضاء في بلاد المغرب والأندلس قبل بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره.
- من صور فخر ابن رشد بموطنه ومدى ازدهاره، ما يرد في قوله الذي كان يناكف به زميله في الطب والفلسفة ابن زهر (وكان من أهل أشبيلية)، والذي برع كذلك في الشعر والنغم والتوشيح: “إذا مات عالم بأشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى أشبيلية”، في إشارة إلى المكانة العلمية البارزة لقرطبة آنذاك.
- خلف ابن رشد ذرية من بعده درسوا الفقه وعملوا بالقضاء أيضاً، وقد برع ابنه عبدالله في الطب وفي بلاط الخليفة، كوالده.
يضع هذا الكتاب (Averroès l’inquiétant – By: Jean-Baptiste Brenet) الفيلسوف الفرنسي الشاب جان باتيست برونيه (1972) وهو أستاذ محاضر في جامعة السوربون للفلسفتين العربية واللاتينية في العصر الوسيط، وقد نال درجة الدكتوراة عن أطروحته (انتقالات الذات: فكر ابن رشد عند يوحنا الجندوني). والكتاب ينطوي على قدر من الصعوبة لا سيما وهو موجّه إلى نخبة المختصين، حيث يتعرض للعلاقة الشائكة التي عقدها الغرب ضد ابن رشد في شروحه لفلسفة أرسطو، والتي فُقدت أصولها العربية بعد أن تُرجمت إلى اللغتين اللاتينية والعبرية.
يقوم محور الكتاب الأساسي على المفهوم الفلسفي للعقل الإنساني عند ابن رشد، فالعقل لديه يتصف بثلاث صفات رئيسية، أولها: مفارق للفرد، أي أنه يقع خارج النفس البشرية. ثانيها: واحد عند الجنس البشري، أي لا عقل للبشرية سوى هذا العقل الجمعي المشترك. ثالثها: أزلي لا مخلوق، وغير قابل للتوّلد وهو غير معرّض للفساد.
لقد عدّ المنظور المسيحي هذه الأطروحة الرشدية بمثابة شتم عام موجه للجنس البشري، الذي لا يقوى بموجبه على التعقّل أو التفكّر، وبحيث تُصبح منظومة الدين والأخلاق والسياسة ضرب من الماضي، وتذوب الفروق الفردية بين البشر، في تفكير شمولي يختزلهم في كل واحد ويُفقدهم وعيهم وحريتهم.
لقد أفرز هذا المفهوم المغلوط للنظرية الرشدية العقلية طُرق ثلاث من العنف وُجهت بمنهجية نحو ابن رشد والرشدية عموماً، هي: (عنف لاهوتي) تجلّى في وصم ابن رشد بالكفر المصاحب لأصناف من السباب واللعن والتحقير، بلغ مداه عند القديس توما الأكويني في كتابه الأشهر/ وحدة العقل ضد الرشديين، في الوقت الذي اعتبره مسيحيو كويمبرا البرتغالية بأنه “وحش مخيف بحيث أن غابات الجزيرة العربية لم تنتج قط أكبر منه”. (عنف فلسفي نقدي) انعكس في كتابات بعض المفكرين، مثل الشاعر الفيلسوف فرانشيسكو بترارك الذي وصف آرائه بـ (الضجيج المسمم)، والفيلسوف اللاهوتي دونس سكوت الذي نعته بـ “هذا اللعين” حين طرده من الجنس البشري لأوهامه وتجديفه حسب زعمه، والفيلسوف الإيطالي لبيتيرو بومبونازي الذي قال في كتابه/ قضية خلود النفس، ما نصّه: “ليقل الناس ما شاءوا! إني أكره رأي ابن رشد أكثر مما أكره الشيطان”. (عنف فني تشكيلي) تمثل لا سيما في لوحات رسامي عصر النهضة الإيطاليين، مثل لوحة الرسّام انطونيللو المسّيني التي تُصور (انتصار) القديس توما الأكويني، حيث يظهر متوّجاً في رهبنة الدومينيك، بينما يظهر الفيلسوف القرطبي ملتحياً مطأطأ الرأس، يعتمر عمامة، وهزيمته بادية للعيان، ومطروحاً أرضاً تحت قدمي القديس المنتصر. ولوحة لرسام آخر يظهر فيها ابن رشد مطروحاً وغير مكتملاً وقد أزيلت عيناه من الصورة، بالإضافة إلى قصيدة شعرية للشاعر الإيطالي جويدو كافلكنتي بعنوان (سيدة ترجوني) يطرح فيها رؤية سوداوية للحب مستلهمة من المعطيات العقلية التي قال بها ابن رشد.
أما من ناحية المفهوم النفسي لهذا الفكر، ومن أجل مقاربة حالة القلق الذي أحدثه الفيلسوف العربي المسلم عند الغرب المسيحي، يستعين الفيلسوف برونيه برأي عالم النفس سيجموند فرويد في (الغرابة المقلقة)، وهي الحالة التي تسبب نوع من القلق لا لكونها غريبة أو جديدة، بل لأنها حالة سادت في السابق بشكل مألوف، ثم استبعدت، ثم تم استحضارها من جديد، حتى حُكم عليها بالقهر والتجاوز .. وفي عبارة موجزة: إنه القلق المصاحب لانطلاق ما تم كبته سابقاً.
تعرض صفحة المحتويات المواضيع التي تناولها الفيلسوف الفرنسي برونيه، بعد كلمة الناشر، وتقديم بقلم الحسين سحبان: (الغرب وشبح ابن رشد المقلق)، ومقدمة المؤلف للترجمة العربية، أعرضها فيما يلي، وقد استقطع بها الكتاب نجمة واحدة من رصيد نجمي الخماسي:
- المريب
- الغرابة المقلقة
- رجل الرمل
- العين المقتلعة
- الانتصار والانتقام
- سيدة ترجوني
- أن تكون حائطاً
- هذا الإنسان ممسوس
- ذاتان، إنسانان
- المرآة المشوهة
- واحد من أجل الكل: خلط الكائنات، تغيير الأفكار
- أنا، الله، القدرة الكلية للأفكار
- الفكر، التكرار، الموت
- اللوح النهائي
ومن (أنا، الله، القدرة الكلية للأفكار) أقتبس ما أورده الفيلسوف برونيه عن استنتاجه مستعيناً بمذهب الاتصال، وهو مذهب يقوم على فكر من غير ذات فاعلة فيه، وذلك في قول ابن رشد عن الاكتساب المعرفي الذي لا بد أن يستمد مصدره من قوة كلية وإن بدت في أول الأمر كنجاح ناتج عن جهد فردي .. في نص رشيد (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
“إن العقل السعيد لم يعد في النهاية سوى العقل الفعال القائم بفضل ذاته، وإذا كانت المسارات الفردية تنجح في اكتساب المعرفة، فأنها ستنتهي بمفارقة قائمة على فعل كُليّاني ودائم لا أدخل فيه، ويلغى فيه التدخل الشخصي. فماذا يمكننا أن نقول عن هذه الحياة الجديدة، هذه الصيغة الجديدة للحياة؟ ابن رشد يكتب في خاتمته :(يفيد هذا الضرب أنّ الإنسان، على ما يقول ثامسطيوس، شبيه بالله، لأنه على نحو ما كل الكائنات، ويعرفها «كلها» على نحو ما، ولا جرم أن الموجودات ليست سوى علمه، وأن علة الموجودات ليست سوى علمه. وهذا النظام معجب! وطريقة الوجود هذه غير مألوفة)”. عليه، يذهب الفيلسوف برونيه إلى عدم قدرة توما الأكويني بلوغ هذه الدرجة من الامتياز العقلي الكلي المستمد من علم الله، والذي يمكّنه كنتيجة من فهم الله ومعاينته في كينونته المطلقة. فيقول: “ولم يذهب توما الأكويني إلى هذا الحد، فهو بما هو لاهوتي مسيحي يتكلم بلا شك على شكل إلهي: فبفضل «نور المجد»، الكائن العقلي حاملاً صورة إله، أي يصبح شبيها بالله. وهذا ما يذكرنا به القديس يوحنا الرسول (رسالة القديس يوحنا الأولى 3-2): «إذا ظهر نكون نحن أمثاله، لأنا سنعاينه كما هو». غير أن التشبه بالله التومائي ليس تمثّل الله الذي يصفه ابن رشد. إذ يرى القديس توما أن ليس الأمر زيادة في نعمة قوتنا العقلية التي تجعلنا قادرين، كثيراً أو قليلاً، على أن نرى الله. فتوما لن يقبل أبداً فكرة التأليه من طريق التماهي الصوري مع الخالق، وهو كذلك لم يلغ قط التعالي: ليس من عقل مخلوق، ولو كان قد بلغ الطوباوية، يستطيع أن يفهم الله وأن يراه في لاتناهيه”. غير أن ابن رشد في نظريته العقلية الكلية المجرّدة من كل قوة، هي عينها علم الله ووجوده. فيقول: “أما عند ابن رشد، فالأمر مختلف. إن ما ينسبه إلى وجود الامتياز، عينه لوجود الله وعلمه. فالإنسان الكامل، الفيلسوف، شبيه بالله. وهذا يعني أن عقله وقد جرّد من كل قوة لم يعد سوى التعقل الكلي للعالم. فبهذا المعنى هو كل الكائنات، وبهذا المعنى كذلك «هو» يعرفها كلها. وهذا يعني أنه قد ترك نظام الوقائع الدنيوية وأنه، بوصفه مبدأ، قد عكست علاقته بالأشياء”. وجود الإنسان في هذا العالم وعلمه يأتيان أولاً، ثم يتمثّل جسدياً فيه، غير أنه هو المعلول الذي من خلاله تتسبب الأشياء، بينما العلم الإلهي هو علة هذه الأشياء. يقول: “إن سمة الإنسان في العالم تأتي في الدرجة الثانية. إن وجوده قد تشكل أولاً، وكذلك علمه. والإنسان يعرف لأن هناك أشياء، ولأن هذه الأشياء تؤثر فيه. وعلمه ثانوي، إنه المعلول الذي تسببت به هذه الأشياء. ولكن الأمر بالنسبة إلى الله بعكس ذلك. فالعلم الإلهي ليس المعلول ولكنّه العلة للشيء. والله لا يعرف الشيء لأن هذا الشيء موجود، بل هو بعكس ذلك موجود لأن الله يعرفه”. من هنا تتجلى العظمة الفكرية للعقل البشري لدى ابن رشد الذي يترقى فيه الإنسان إلى مرتبة فوق بشرية، بحيث يصبح الفاعل الذي يُترجم لديه العلم إلى عمل فيحدث أمراً .. وهو الأمر الذي استغلق على مدارك توما الأكويني المنكفئ على حدود عقله. فيختم الفيلسوف برونيه تحليله بهذه المفارقة قائلاً: “هذه هي العظمة التي يوعَدها الإنسان الكامل، وهذه ما هي لا يريده الأكويني. إذ يأخذ توما الكثير من النص الذي يعرضه، ولكن ليس هذا الذي يشكل فيه رأس الحربة، ذلك أن ابن رشد يرى أن الفيلسوف ليس الإنسان المفكر تفكيراً تاماً فحسب، بل إنّه الإنسان الذي هو أكثر من بشري، والذي علمه من الآن فصاعداً علة الكائنات، الإنسان الذي العلم عنده يعني العمل، العمل لكي يحدث أمر ما، إنه إنسان الفكر الكلي القدرة”.
وعلى مكتبتي الغرّاء إضافة إلى هذا الكتاب، كتب أخرى تعني بسيرة الفيلسوف المسلم، منها: ابن رشد – تأليف: عباس محمود العقاد / ابن رشد والرشدية – تأليف: إرنست رينان / الفلسفة الإسلامية بعد ابن رشد – تأليف: د. فارس العلاوي / التفكير الفلسفي عند ابن رشد – تأليف: د. سلمى بو غازي / ابن رشد: طاقة نور في عالم معتم – تأليف: مجدي كامل. أما من مؤلفات الفيلسوف نفسه، فأمتلك: تهافت التهافت / رسائل ابن رشد / بداية المجتهد ونهاية المقتصد / الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة.
وأختم بما جاء في رأي الفيلسوف برونيه عن ابن رشد كغربي لا عربي، إذ قال في جرأة مدهشة وهو يحلل حشر ابن رشد في التراث الغربي المسيحي، عقيدة وتصويراً، وإن كان ضمن الهراطقة، كإقرار بصيغة ضمنية، على انتماء الفيلسوف العربي المسلم إلى العالم اللاتيني المسيحي: “ابن رشد صاحب ثورة إبيستيمولوجية جديرة بأن تُصنّف مع الثورات الثلاث: الفلكية (الكوبرنيكية)، والبيولوجية (الداروينية)، والسيكولوجية (الفرويدية)”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً من المفكّرة: جاء تسلسل الكتاب (16) في قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لهذا العام .. 2022، وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية خلال العام، ضمن (120) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
أنشطة شهر أغسطس: استأنفت القراءة بعد انقطاع عدة أشهر لاستكمال مهمة ما .. وكأني تنفست الصعداء من جديد!
تسلسل الكتاب على المدونة: 347
التعليقات