كتاب تتضاعف قيمته في موضوعه المحيط بالفيلسوف العربي المسلم (أبو الوليد محمد ابن رشد) من جانب، وفي كاتبه مؤلف العبقريات (عباس محمود العقاد) من جانب آخر.
تأتي قراءة هذا الكتاب ضمن سلسلة من قراءاتي التي لا تنتهي عن اسم علم، ورائد بلا منازع، في الفقه والشريعة والقضاء والفلك والطب والفيزياء والفلسفة. فلقد قمت مؤخراً بقراءة مؤلَف المؤرخ الفرنسي أرنست رينان (كتاب/ ابن رشد والرشدية)، الذي -وعلى الرغم من شهرته- لم يكن على المستوى الذي توقعت في المنفعة، فجاء هذا الكتاب كتعويض قيّم. وكنوع من التبريك، قصدت الاستفتاح بهذا الكتاب عام 2020 في يومه الأول وعن تحدي القراءة فيه، وجاء كما أمّلت مبشراً كاستهلال، ومحفزاً لمزيد من الاطلاع في كتب فكرية حديثة وعريقة.
يعرض فهرس الكتاب -الذي حظي بأربع نجوم من رصيد أنجمي الخماسي- أربع فصول رئيسية تضم العديد من العناوين الفرعية، وينتهي ببحث للكاتب المصري محمد لطفي جمعة عن سيرة الفيلسوف. تتعنون كما يلي:
- عصر ابن رشد
- ابن رشد في عصره
- جوانب ابن رشد
- منتخبات من آثار ابن رشد
بينما لا تفي أنهار من كلمات حق الفيلسوف المسلم، أعرض في الأسطر القادمة عبق من سيرته العطرة .. علّ وعسى، وباقتباس في نص من نور (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) ما يلي:
جانب من سيرته:
- يُنصف القدر ابن رشد (520-595 هـ / 1126-1198 م) حيث ولد وعاش في قرطبة حاضرة الدنيا، في أوج ازدهار حركة العلم والفكر والعمران والفنون والآداب، ففي حين كانت تُذكر بغداد والإسكندرية وروما، كانت قرطبة تصطف بفخر إلى جانب أخواتها تلك في المجد والقدر والمكانة.
- هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، سليل عائلة ذاع صيتها في مهنة القضاء، إذ تقلّد أباه وجدّه من قبل منصب القضاء في قرطبة، وقد كان الأخير يضطلع بشؤون السياسة بين مراكش والأندلس، ولا تزال مكتبة باريس تحتفظ بمخطوطاته في الفتاوى، وقد توفي قبل ولادة حفيده بشهر على أصح الأقوال.
- أكبّ ابن رشد على الدرس والبحث منذ صباه، ولم يصرفه عن ذلك سوى يوم زواجه، ويوم وفاة والده، وقد تولى منصب القضاء في بلاد المغرب والأندلس قبيل الخامسة والثلاثين من عمره.
- من صور فخر ابن رشد بموطنه وازدهاره، ما يرد في قوله الذي كان يناكف به زميله في الطب والفلسفة ابن زهر (وكان من أهل أشبيلية)، والذي برع كذلك في الشعر والنغم والتوشيح: “إذا مات عالم بأشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى أشبيلية”، في إشارة إلى المكانة العلمية البارزة لقرطبة آنذاك.
- خلف ابن رشد ذرية من بعده درسوا الفقه وعملوا بالقضاء أيضاً، وقد برع ابنه عبدالله في الطب وفي بلاط الخليفة، كوالده.
جانب من مناقبه:
- عفّ ابن رشد عن منادمة الأمراء خلاف أقرانه الذين كانوا من المقربين لديهم، لا لشيء سوى اتقانهم فنون المسامرة وسياسات التحبب، فاكتسى بالسكينة وراض نفسه على الوقار والورع وقد ترك المزاح، حتى قيل إنه أحرق ما نظمه من شعر في صباه، ذلك لأنه أنف أن يروى عنه شيء في الغزل. رغم هذا فقد كان يجود في مواطن الحكمة بما يحفظه من الشعر العربي لحبيب والمتنبي. يعقّب الكاتب في هذا الجانب قائلاً: “يظهر أن شهرة القاضي بالفلسفة قد جعلته موضع النظر مع الحذر، فلما استدعاه المنصور ظن أهله وصحبه أنه عازله ومنكل به، فلما خرج من عنده بعد تلك الحفاوة أقبل عليه صحبه يهنئونه، فقال لهم قولة حكيم: (والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به، فإن أمير المؤمنين قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمل فيه أو يصل رجائي إليه). وكلمة كهذه تكشف عن بصيرة الرجل وصدق رأيه كما تكشف عن سليقة المعلم فيه، فإنه لو كان من أهل المنفعة بالمناصب لسره أن يؤمن الناس بزلفاه عند الخليفة، ولكنه علم الحقيقة فآثر الإرشاد بتعليمها على الانتفاع بما اعتقده الناس من وجاهته، وأيقنوه من عظم منزلته عند ذوي السلطان”.
- كان يرُى واقفاً في مجلسه لاستقبال زائريه، مسامحاً في حق نفسه، غير مسامح في حق غيره، وقد قيل إنه بذل عطاءً لأحدهم وقد أهانه، وحذّره من فعل ما فعل مع غيره توخياً لغضبهم. ومما يؤثر له تحرّجه من إصدار أحكام الموت، وقد كان يبعث إلى نوابه للتحقق قبل القضاء.
جانب من شأنه:
- بزغ نجم ابن رشد عندما استدعاه الخليفة أبو يعقوب المنصور في دولة الموحدين ليستشف ابتداءً ما يحمله الرجل من علم، حتى إذا أمكنه منه كلّفه بشرح مخطوطات الفيلسوف الإغريقي أرسطو التي تُرجمت في المشرق العربي، إذ استعصى عليه فهمها، وقد كان كل هذا بإيعاز من الفيلسوف ابن طفيل المقرب للخليفة، صاحب قصة حي بن يقظان في التصوف. وكمفارقة، جاء اهتمام الخليفة بعلم الفلسفة رغم اعتناقه المذهب الظاهري الآخذ بظاهر النصوص المتحرّج من التأويل، وقد كان المذهب السائد في تلك الآونة رغم وفاة إمام المذهب ابن حزم بزمن طويل.
- يُعرف ابن رشد عند الأوروبيين باسم Averros، وقد ذاع صيته لديهم ابتداءً من العصور الوسطى وتحديداً من خلال شروحه لكتب أرسطو التي تُرجمت إلى العربية ومن ثم إلى اللاتينية، ففي حين عُرف أرسطو عندهم بـ (الفيلسوف) عُرف ابن رشد بـ (الشارح أو المعقّب)، وقد كان على رأس من اهتم بنقل شروحه إلى اللاتينية القديس توما الأكويني. ومما يلفت الانتباه في فطنة ابن رشد تطابق المعنى الذي نقله عن أرسطو، إذ لم ترد عنه سوى هفوات في بعض الأسماء، وهي أقل بكثير مما يُحصى على أي متمكن من اللغة اليونانية ذاتها. والطريف في الأمر أن الفضل في نشر فلسفة ابن رشد المسلم في أوروبا يعود في قدر منها إلى اليهود الذين تم اضطهادهم مع من اضُطهدوا بعد سقوط الأندلس وتفرقهم في أوروبا، وعلى رأسهم تلميذه الفيلسوف اليهودي ابن ميمون وتلامذته من بعده. يقول الكاتب عن هذه المفارقة: “رزق ابن رشد أنصاراً ومعجبين من أصحاب الأديان الثلاثة لم يرزق مثلهم فيلسوف قبله ولا بعده، وهو هو الذي كان له مصادرون ومضطهدون من أتباع كل دين وخدام كل سلطان، ولو أن المصادرين عملوا قصداً وعمدا على نشر آرائه وشروحه لفاتهم بعض النجاح وأخطأهم بعض التدبير”.
- يتعرض الكتاب لعدد من المفكرين الغربيين الذين تناولوا سيرة الفيلسوف المسلم. فهذا المفكر الإنجليزي جون روبرتسون يعتبر أن ابن رشد قد عاصر زمن الانحطاط الفكري الذي لم يشفع له ظهوره فيه بمظهر الورع، في الوقت الذي أخذ فيه من كتب الأولين لا سيما اليونان وفلسفتها التي حرّم خليفتهم النظر فيها، “ولم يطل عهد العرب في الأندلس بعده، فلما أفل نجم سعدهم كان الدين قد حل محل الفلسفة، وبذا دللت دولة الأندلس في جو من التقوى”. وبينما يعتقد الكاتب أن روبرتسون قد بالغ في رسم صورة التداعي التي حلّت بالفيلسوف المسلم وفكره، فإنه يشيد برأي المؤرخ الفرنسي إرنست رينان الذي “قال إن عداء الشعب الأندلسي للفلاسفة كان قوياً جداً، ولكن اللوم فيه راجع إلى عنصر المسيحيين المغلوبين وهم أهل البلاد أصلاً، وكانوا من قديم الزمن متشددين في الدين وكانوا معرضين عن العلوم الصحيحة مثل الفلك والطبيعيات”. ثم يعقّب الكاتب قائلاً: “ونحن نرى رأي رينان ونزيد عليه أن ما أصاب ابن رشـد وأصحابه كان مظهراً من مظاهر أخلاق أهل إسبانيا، لأن أمثاله في الشرق لم ينلهم أقل أذى، ولو كان الاضطهاد من لوازم الإسلام ما نجا منه أمثال الكندي والفارابي وابن سينا”.
- ورغم تبجيل الأوروبيين لهذا الفيلسوف إلى يومنا هذا، فقد كان له منهم نصيب في النبذ والذم واللعن، وذلك حينما عادته الكنيسة فيمن عادت من الفلاسفة باعتبارهم مهرطقين وزنادقة. وقد اختصه دانتي في لوحة جحيمه المزعوم في ملحمته الشعرية .. اللوحة المنقوشة حالياً على إحدى سقوف الفاتيكان.
جانب من مآثره:
- في الفقه: على الرغم من اعتناقه المذهب المالكي كحال أهل المغرب آنذاك، فقد كان في موقعه كقاض يحيط بفروع وأصول الفقه، ويطرق آراء كافة المذاهب في المسائل المختلف عليها.
- في الطب: يرى بأنها صنعة تقوم على “مبادئ صادقة” غايتها سلامة البدن وشفائه من المرض، والتي يجب أن تتم بالوقت والقدر الذي ينبغي لتحظى بغايتها. يقسّم هذه الحرفة إلى سبعة أجزاء، تبدأ من شرح أعضاء الجسد الظاهرة، وتنتهي بطرق العلاج. وكان يقول في دروسه عنها: “من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيماناً بالله”.
- في الغذاء: يفصّل ابن رشد في فوائد مجموع الأغذية من خضار وفاكهة، كوسيلة لصحة البدن وعلاجه في حالة المرض.
- في الرياضة: يرى بأنها تبعث حرارة تنمي الجسد وتعزز الروح وتطيّب كافة الأعضاء، ويقول عن شدتها حال تركها. ويستشهد في هذا بالحال البائس للسجناء من إنسان وحيوان على حد سواء.
- ترك ابن رشد ذخيرة من المؤلفات، يستعرض الكاتب أشهرها متسلسلة بعمره. حيث ابتدأ أولها (كتاب الكليات) في الطب وهو ابن السادسة والثلاثين، وانتهى بآخرها (كتاب المنطق) وهو شيخ في السبعين أثناء محنته التي أودت بحياته. في العموم، لقد خلّف الفيلسوف ما يزيد عن المائة كتاب وصل منها بالعربية وبقلمه هو نزر يسير منها، حيث إن معظم مؤلفاته قد تمت ترجمتها فعلياً إلى العربية من اللغتين العبرية واللاتينية. يعود السبب في هذا إلى الدمار الذي ألحقه الأسبان بكل أثر إسلامي بعد سقوط الأندلس منها حرق كتب المسلمين، بالإضافة إلى ما أحرقه المسلمون أنفسهم في حضرة الفيلسوف إبان محنته.
- عكس أسلوب ابن رشد في التأليف شخصية فيلسوف متميزة، إذ ظهر جاف اللغة صعب المراس قاسي اللهجة في التعاطي مع معارضيه، ومعبراً عن نفسه مسهباً في رأيه في أسلوب رفيع وواضح. وهو في هذا يفصح عن مرتبة عالية في النبوغ الفكري.
من بعض مؤلفاته الآتي:
-
- في الفلسفة: تهافت التهافت.
- في الفقه: بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
- في الإلهيات: كشف مناهج الأدلة.
- في الطب: تفسير الأرجوزة لابن سينا.
- في العلم: الشرح الصغير للجزئيات والحيوان.
- في الميتافيزيقا: ما بعد الطبيعة.
- في السياسة: الخطابة لأرسطو.
جانب من فلسفته:
- بلغ الفيلسوف مرتبة مرموقة من الكمال العقلي والفكري، وقد اعتبر الفلسفة الأخت الرضيعة للشريعة بل ومقدمة عليها، فبينما يقطع الفيلسوف بيقين عقلي بما يوافق الحق، يقطع الفقيه بيقين ظنني فحسب. عليه، يرى من الواجب تقديم البرهان العقلي على تأويل النصوص الظاهرة.
- يرى ابن رشد أن المسلم الحق هو من أيقن المعنيين الواردين في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، أي في اليقين بوجود الإله واليقين بوحدانيته.
- من ناحية الشرع والإيمان، فإن الناس عند ابن رشد يتفرقون بين ثلاث: (الخطابيون) وهم الأغلبية وليس لهم شأن في التأويل. (الجدليون) وهم أهل التأويل الجدلي. (البرهانيون) وهم أهل الحكمة وأصحاب التأويل اليقيني.
- ولعل من أعظم الجوانب التي تبُرز مكانة ابن رشد كفيلسوف وتنضح عن فكره الفلسفي، كتاب (تهافت التهافت) الذي تصدى فيه لرأي حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي عن كتابه (تهافت الفلاسفة). ففي حين نصّب الأخير نفسه مدافعاً عن الشريعة ضد فلسفة الفلاسفة وقد كفّرهم ولعن معتقدهم وتوعدهم بعذاب النار، نصّب الأول نفسه نصيراً للفلسفة والحكمة ودحض ما لحق بها وأهلها من قدح وعار، وذلك بعد قرابة المائة عام من وفاة الإمام الغزالي.
- ومن جملة ما تعرّض له في كتابه ثلاثة مساءل شائكة، هي: (1) قدم العالم. (2) علم الله بالجزئيات. (3) بعث الأجساد بعد الموت. ففي المسألة الأولى يرى أن وجود العالم وهو خلق من خلق الله يخضع لمشيئته، ومشيئة الله قديمة ليس لها ابتداء. لذا، فالعالم عند ابن رشد قديم. أما المسألة الثانية فلم يعرها ابن رشد الاهتمام الكافي لرفضه إلحاق مثل هذا القول بالفلسفة، ويرى أن علم الله الأزلي غير مجانس لعلم البشر المحدث، ويستشهد بالرؤيا الصادقة التي يعتبرها من جزئيات حادثة في زمن قادم، أو كعلم ينذر الإنسان في نومه من لدن علم أزلي كلي. وفي هذا، يظهر ابن رشد مكتفياً بيقينه الذي يجعل فيه علم البرهان مستمداً من وحي الله، فكان يقول: “إن علم البرهان نفسه إنما هو من وحي الله”. وعن المسألة الثالثة، فيُستخلص من رأيه الاعتقاد بعدم فناء الروح فهي من أمر الله، وأنه من غير الواجب الخوض بما يخالف الوحي وما جاء به الرسل. لقد كان يرى أن الروح هي مجتمع النفس والعقل، غير أن العقل أرقى من النفس، كجوهر مستقل وغير قابل للفناء. يختم الفيلسوف كتابه وقد أبدى كراهية الخوض فلسفياً في الأمور الإلهية واستغفر لهذا، ولولا “ضرورة طلب الحق مع أهله” ما كان قد تكلم بها كما أوضح.
- في علم الإلهيات وما بعد الطبيعة، يرد ابن رشد على القائلين بأن العالم “غير واجب الوجود” وهو “قابل للتغيير” بناء عليه، غير أنه يرى بأن الله قد خلق الخلق على صورة ما لحكمة ما، فلا تتغير، وإلا كان هذا عبثاً ويستحيل العبث في خلق الله.
- في التصوف، ينتقد ابن رشد طرق المتصوفين في النظر للأمور من غير مقاييس، إذ يرون أن معرفة الله تُلقى في النفس وهذا يتأتى بإماتة الشهوات. وعلى الرغم من أن ابن رشد اعتبر إماتة الشهوات شرطاً في الحصول على المعرفة، فإنها لا يمكن أن تتأتى خالصة بها.
- يلّخص ابن رشد في كتابه (الكشف عن مناهج الأدلة) رأيه في المعجزة، إذ يرى أن معرفة الحق الذي جاءت في دعوة النبي ﷺ مدعاة لتصديقه وليس لازماً أن يتحصّل بمعاينة المعجزات. إن المؤمن لا ينكر قدرة الله بالإتيان بخوارق الأمور، فالمعجزات ممكنة، والقرآن الكريم هو حجة الإسلام لا المعجزات. ثم يستمر موضحاً أن حجة المعجزة وحجة البرهان تختلفان.
- في تلخيصه لكتاب أرسطو (الخطابة)، يصنف ابن رشد السياسات الحكومية إلى أربعة، وهي: (1) السياسة الجماعية (2) سياسة الخسة (3) سياسة التسلط (4) سياسة الوحدانية.
- يرى ابن رشد فيما يتعلق بـ “مذهب الاتصال” أن نيل الحقيقة لا يتم إلا من خلال العقل وتحديداً عند بلوغه أعلى مراتب العلم والفكر. يكيل عند هذا الحد ذمّاً للمتصوفين، فينكر عليهم زهدهم وقد نأى بنفسه عن مذهبهم، حيث كان يعتقد أن انتصار الإنسان على ملذات حواسه هو ما يقوده إلى الجنة بصرف النظر عن ملته، وهي درجة تؤدي بالتالي إلى بلوغ السعادة. رغم هذا، يرى أن طريق الوصول وعر ولا يتم إلا في الشيخوخة، بعد أن يكون المرء قد راض نفسه طويلاً في نبذ الزائل من عرض الدنيا والتعمق في الفكر والبحث.
- في رأيه عن الخلود، يرى أن “العقل الفعّال” هو الخالد، وهو يعبّر عن عقل الإنسانية جمعاء. ولذلك جاءت الإرادة الإلهية بتناسل الإنسان، كسلوى وكنوع من التخليد. على هذا، يعتقد ابن رشد بخلود العقل في الحياة الأخروية، أما الحواس والعاطفة فهي من خواص حياة أدنى.
- وعن مسألة الجبر والاختيار، لا يعتقد ابن رشد بحرية الإنسان المطلقة ولا بتسييره المطلق، إذ أن حريته فيما يأتي من أعمال كامنة فيه، غير أنها تخضع لظروف وقوانين طبيعية خلقها الله من حوله.
- ولابن رشد في رأيه عن المرأة ما ينم عن فكر متنوّر سابق لأوانه. إذ يرى أن تفوق الرجل على المرأة يكون في الدرجة فقط لا في الطبيعة، وهي تقوى كالرجل على ممارسة أعمال عظيمة كالفلسفة وخوض الحروب، لكن بدرجة أقل، ويضرب في نساء أفريقيا مثلاً في ذلك. غير أنه يعتقد بتفوق المرأة على الرجل في طرق الفنون كالموسيقى، ويجزل في عطائه حين يمّكن المرأة من حكم البلاد. لقد كان يقارن في أسى بين حال المرأة الأندلسية المسلمة ونظيرتها الأوروبية المسيحية وتفوق الأخرى عليها في مثل هذه الأمور. وبهذا، كان قد أنكر نظام العبودية الذي أخضع فيه المسلمين نسائهم، وحصرهن في جوانب الحمل والإنجاب والحضانة وما إليها من أمور، فخسر المجتمع بهذا مواهبهن العظمى التي لم تُستغل، لا سيما أن ثلثي المجتمع في ذلك الوقت كان يبلغه النساء.
جانب من محنته:
- كان مما أغار صدر الخليفة المنصور مخاطبة ابن رشد له بـ “تسمع يا أخي”، حيث كان نصب عيني الفيلسوف الإخلاص للعلم والعمل لا لسواهما، والأنفة من التزلف للأمراء وتنميق ألقابهم، وذلك خلاف ما كان عليه الكثير من نظرائه آنذاك. وقد كان من ذلك استجواب الخليفة له عن قوله “ملك البربر” في شرحه لكتاب أرسطو (الحيوان) عن الزرافة التي رآها لديه، الخطأ الذي عزاه الفيلسوف للناسخين، وصححه بـ “ملك البرين”.
- لم تكن موالاة ابن رشد لأخ الخليفة المنصور المناوئ له ولا رفع الكلفة في مخاطبته ولا تسميته بملك البربر، ذرائع تليق بوجاهة الخليفة في انقلاب موقفه ضد ابن رشد، بل استغل وشاية أعدائه به من ناحية عقائدية لا سيما حينما عثروا بين مخطوطات كتبها بخطه متحدثاً عن فلاسفة اليونان قائلاً: “وقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة”، فأحضره الخليفة على رؤوس الأعيان ملقياً مخطوطته بين يديه مستفسراً: “أخطك هذا”؟ فلعن كاتبه ولعنه القوم حين أنكره الفيلسوف. ومن الطريف أن الإغريق تسمي كوكب الزهرة بـ (فينوس) أي ربة الحب، وأصل الكلمة بنوت -جمع بنت- وتقلب بائها فاء في بعض كتب اليونان القديمة. يقطع الكاتب بالنفي ويرى أن مثل هذا التلفيق قد جاء من جملة ما وشى به أعداء الفيلسوف وشهد عليه خلق منهم زوراً وبهتانا، في خطة غير معلنة لزندقته وإيغار صدر الخليفة عليه، وقد تم لهم ما مكروا.
- جاء في ترجمة الأنصاري عن حديث الشيخ أبو الحسن الرعيني ما أسماه بـ “عظمى الفلتات” على ابن رشد، حين تم استفتاؤه مع عدد من شيوخ عصره في شأن ريح أصابت بلاد الأندلس والمشرق بأكمله، فأفتى أحدهم بأنها ثاني أعظم ريح بعد عاد، فما كان من ابن رشد إلا أن استطرد قائلاً: “ولله وجود قوم عاد ما كان حقا، فكيف سبب هلاكهم”. وهي كلمة قد أكبرها من حضرها لما تحمل من معان كفر بصريح القرآن. بطبيعة الحال، ينفي الكاتب مثل هذا الروايات من خلال تحليل منطقي يستفيض فيه.
- في المغرب، سبق الفيلسوف ابن باجة صاحبيه ابن رشد وابن طفيل، إذ برع في الطب والأدب إلى جانب الفلسفة وفي نقل ثقافة اليونان إلى العرب، فأوغر صدور زملائه الأطباء عليه ومضوا بالدسيسة ضده عند خليفة دولة المرابطين ابن تاشفين، حيث انتهى الأمر بمقتله بعد دس السم في طعامه وهو ابن أربعين عام. وكأن القدر يشاطر الفيلسوفان ابن باجة وابن رشد نصيبهما من الحسد والوشاية، إلا أن ابن باجة قد اتقن صحبة الأمراء التي تنزّه عنها ابن رشد.
- وعن نكبته، يستصعب ابن رشد موقف طرده وابنه عبدالله من أحد جوامع قرطبة على يد بعض سفلة القوم قبيل صلاة العصر، وقد انتهى به الحال في نفيه إلى مدينة (أليسانة) لا يبرحها. تكمن المفارقة في هذا النفي بأن أكثر ساكني هذه المدينة كان من اليهود، وذلك في إشارة من القوم بعدّه من غير المسلمين لما حمل من فكر مناف لشريعة الإسلام، بل وللتشكيك في أصله. أعاد الخليفة ابن رشد من منفاه بعد أن اصطلح مع أخيه الأمير، فاستدرك خطأه وأقبل على الفلسفة يتعلمها بعد أن نبذها، لكن الفيلسوف ما برح أن توفى بعد مرضه الذي ألم به في محنته وهو في الثانية والسبعين من عمره، فدفن في مراكش ثم نقل جثمانه إلى مقبرة أسلافه في قرطبة حسب وصيته، على أصح الروايات. لم يطل المقام بالخليفة المنصور، فقد وافته المنية بشهر واحد من رحيل الفيلسوف.
- يبرر الكاتب المنهج الفلسفي لدى ابن رشد قائلاً: “وكثير من آراء ابن رشد يخالف المعتقدات الإسلامية، والواقع أنه نُبذ لأن الخليفة اتهمه بانحلال العقيدة. على أنه لم يكن جاحداً منكراً للدين، بل عنده أن الدين يصور الحقائق الفلسفية على أسلوب المجاز، وهو يميز بين التفسير الحرفي لنصوص القرآن وبين معانيها التي يدركها الحكماء ويرتفعون بها وحدها إلى الحقائق العليا. ومن واجب الفلسفة أن تنظر فيما هو من تقليد الدين وما هو من القضايا التي تحتمل التفسير، وعلى أي وجه يكون تفسيرها”.
- وفي أسطر من شجن ينعى الكاتب أرض الأندلس وأمة الإسلام جمعاء، إذ شاء الله أن تأفل نجوم العلم والفكر والحكمة كابن شد وابن طفيل وابن زهر في وقت متقارب أواخر القرن السادس الهجري .. يعزوها الأمل في تقفي أثرهم، والاقتباس من نور إرثهم، وبحور فضلهم الذي لم ينضب بفقدهم.
لقد كانت نكبة عظيمة تورّط فيها المجرمون الذين راوغوا بالحق ليقرّوا بالباطل حين اتخذوا الدين مطية لمحاربة العقول .. لا جهلاً، بل حسداً من عند أنفسهم ضد كل من أعلن كلمة الحق في وجه أغراضهم الدنيوية وممالأة السلاطين .. ممن كان أكثر علماً وحكمة وبصيرة .. “قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ”.
رحم الله الفيلسوف الأول قاضي قرطبة الذي أبى إلا أن يشع نوره في سماء الحكمة .. كنجم .. رغم أفوله منذ قرون مضت .. إنه المؤسس الأول لعصر التنوير العصي على الفكر الظلامي .. شاء من شاء من أحرار الفكر وأبى من أبى من ذوي الأغلال.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (1) في قائمة حوت (105) كتاب، قرأتهم عام 2020 .. رغم أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2018 ضمن (140) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!.
لقد كان 2020 عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
وفي هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة .. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (يناير)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“حضرت معرض للكتاب في إحدى المدن العربية .. كانت الكورونا حينها تلوّح في الأجواء“.
لقد كان أول كتاب افتتح به عام 2020 .. وعند نهاية العام، ومع آخر كتاب فيه، جددت ما دونّت هنا، وكتبت:
“كم كان لافتاً أن أبدأ العام بكتاب عن الفيلسوف ابن رشد وأنتهي بآخر عنه .. وأنا لا أؤمن بالصدف”.
تسلسل الكتاب على المدونة: 101
التعليقات