كتاب صغير في حجمه عميق في مضمونه .. تتلاحم فيه المعلومة العلمية بالروحانية، بالتساؤلات المنطقية الطابع المستحيلة التبرير، لتحمل القارئ إلى بعد آخر من الكون وقد فُتحت مداركه واتسع أفقه، ليتساءل بدوره: هل ما تم اعتناقه كحقيقة حتى اليوم هو في حقيقته وهم؟ أم أن لكل شيء في الكون أبعاد متعددة واقتصر إدراكنا المحدود على جانب منه فقط؟
يعرض فهرس الكتاب -الذي احتل أربع نجمات من رصيد أنجمي الخماسي- عشرة موضوعات، تصدى لها د. مصطفى محمود كعادته بأسلوب السهل الممتنع. وهي كالآتي:
- أينشتين والنظرية النسبية
- كل شيء ذرات
- مبدأ الشك
- المكان
- الزمان
- نتائج مدهشة
- الكتلة
- الحركة المطلقة
- البعد الرابع
- النهاية
في عجالة، أسرد ما علق في ذهني من استفهامات الكتاب، واختار من ألوان الطيف (النيل) وهو لون السماء بعد منتصف الليل .. لاقتبس نصاً ما ورد في إجاباتها (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
- يستهل د. مصطفى محمود كتابه بالتمهيد لفكرة أن ما نراه حقيقة هو ليس بالضرورة كذلك. فيقول: “… هذا ما نراه وما نحسّه بالفعل ولكنه ليس كل الحقيقة! فالنور الأبيض الذي نراه أبيض إذا مررناه خلال منشور زجاجي يتحلل إلى سبعة ألوان هي ألوان الطيف المعروفة، الأصفر والبرتقالي والأحمر والأخضر والأزرق والبنفسجي …إلخ، فإذا حاولنا أن ندرس ماهيّة هذه الألوان لم نجد أنها ألوان، وإنما وجدناها موجات لا تختلف في شيء إلا في طولها .. ذبذبات متفاوتة في ترددها، وهذه كل الحكاية .. ولكن عيننا لا تستطيع أن ترى هذه الأمواج كأمواج، ولا تستطيع أن تحس بهذه الذبذبات كذبذبات، وإنما كل ما يحدث أن الخلايا العصبية في قاع العين تتأثر بكل نوع من هذه الذبذبات بطريقة مختلفة، ومراكز البصر في المخ تترجم هذا التأثر العصبي على شكل ألوان، ولكن هذه المؤثرات الضوئية ليست ألواناً وإنما هي محض موجات واهتزازات، والمخ بلغته الاصطلاحية لكي يميزها عن بعضها يطلق هذه التعريفات التي هي عبارة عن تصورات .. وهذه هي حكاية الألوان”.
- هل السماء كما تبصرها أعيننا زرقاء بينما الحدائق خضراء؟ هل العسل حلو الطعم كما تستذوقه ألسنتنا والعلقم مرّ؟ هل الماء سائل كما يسيل بين أيدينا والجليد صلب؟ هل هذا الزجاج شفاف فتخترقه أبصارنا والحائط أصم فلا تخترقه؟ هل أحداث الكون تجري في زمن واحد وبنفس التوقيت، فما يجري فوق الأرض يتزامن مع ما يحدث فوق المريخ؟ .. إن النبات ليس بأخضر، غير أنه يمتص كافة موجات الضوء في الطبيعة ما عدا تلك الموجة التي تلتقطها أعيننا، والتي يترجمها المخ بعد ذلك إلى ما اصطلح على تسميته بـ (اللون الأخضر) .. ليس إلا!.
- إن الضوء الذي يصلنا من نجم غائر في أعماق السماء في هذه اللحظة، قد انبعث فعلياً قبل خمسمائة مليون سنة ضوئية! إنه ليس هو كما نراه الآن بل أثر من ماضيه السحيق! كيف مصيره الآن؟ هل انطفأ؟ أم انفجر؟ أم اختفى؟ أم اندمج؟ أم ارتحل؟ أم تحول إلى خلق آخر؟
- يرفض أينشتاين “فكرة المكان المطلق”، بل يعتقد أن المكان متغير باستمرار وهو منسوب دائماً إلى آخر، وأن أي محاولة لتقدير الوضع المطلق لجسم ما في المكان يُعتبر مستحيلاً. فيقول: “إنه لا يوجد وسط ثابت، ولا مرجع ثابت في الدنيا، وأن الدنيا في حالة حركة مصطخبة. وبهذا لا يكون هناك وسيلة لأي تقدير مطلق بخصوص الحركة أو السكون، فلا يمكن القطع بأن جسماً ما يتحرك وأن جسماً ما ثابت، وإنما كل ما يقال إن الجسم كذا يعتبر متحركاً بالنسبة إلى الجسم كذا. كل ما هناك حركة نسبية، أما الحركة الحقيقية فلا وجود لها .. كما وأن السكون الحقيقي لا وجود له أيضاً، والفضاء الثابت لا معنى له”.
- هل ما نراه حولنا هو الواقع الخارجي فعلاً أم أنه مجرد أحلام وخيالات صوّرها لنا جهازنا العصبي بما يحدّه من أدوات حسية؟ عليه، هنالك العديد من الحيوات، فحياة الصرصار الذي يرى الدنيا بجهاز عصبي يختلف عن جهاز الإنسان، يختلف بدوره عن حياة دودة الإسكارس العمياء .. وهلم جرا.
- ليست لوحات الفن التجريدي مجرد خربشات بأصباغ أصحابها المعتوهين، بل قد تنمّ عمّا يراه الواحد منهم فعلياً، وقد علم أن ما حوله ليس حقيقياً فعلاً، فلم يلتزم به؟ بل يصبح “في إمكانه أن يتلمس الحقيقة لا بعينه وإنما بعقله وربما بعقله الباطن أو وجدانه أو روحه”.
- يتواضع أينشتاين تواضع العالم الحق فيعمد إلى تبسيط نظريته، إذ لا كهانة في العلم، ويعتقد أن حصر العلم بين فئة العلماء بحجة الاختصاص “يؤدي إلى عزلة العلم، ويؤدي إلى موت روح الشعب الفلسفية وفقره الروحي”.
تأبى العبقرية الفذة لأينشتين -وقد زعزعت حقيقة الحقائق- إلا أن تسلّم بحقيقة ثابتة لا مجال للشك فيها، وهي (الإيمان بالله). إنه يشكر الله على القليل الذي سمح له برصده من الحقيقة الكاملة، وعلى تبجيله لسر كنهه فيما يتبدّى له من تفاصيل يعيها بإدراكه المحدود. إنه “مؤمن بالمعنى التقليدي للمؤمنين، فهو يعتقد في إله، ويعتقد إن الكون متسق ومنسجم، وأنه آية من آيات النظام، وأنه يمكن تعقّله .. وهو يرفض فكرة أن الكون فوضى ويرفض فكرة الاتفاق والصدفة والعشوائية”. ثم تأتي من بعدها عبقرية د. مصطفى محمود الشارحة لنظريته والمبسطة لها .. يسلّم لها ونسلّم معهما أجمعين!.
عجباً كيف كلما ظن الإنسان أنه قد ملك الكون بقبضة علمه، فُتحت له ثغرات ينظر من خلالها ليتيقن أنه -وقد قصُر بصره- على حدوده!.
وتبارك جلّ في علاه حين قال: “وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً” ..
وعلًنا نشهد ما خُفي عنا يوم يأتي تأويله “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ”.
كتاب كنت قد قرأته وأنا في بواكير العشرين، وها أنا أعود إليه مجدداً بعد مرور الأعوام لأقرّ بأن الفكر الحر كأصالة الذهب .. ولا يزال د. مصطفى محمود المفكّر الغائب-الحاضر، بأصالة فكره، وصدق منهجه، وإخلاصه لما يعتنق.
………….. رحمه الله.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (36) في قائمة ضمت (85) كتاب قرأتهم عام 2019 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (80) كتاب فقط! وهو تاسع كتاب اقرأه في شهر يونيو من بين أحد عشر كتاب.
إنه كتاب كنت قد اقتنيته مع بداية إصداره ضمن مجموعة كبيرة من إصدارات المؤلف حيث قرأتهم جميعاً آنذاك، والتي جاءت في طبعة منسوخة بالآلة الكاتبة على أوراق صفراء، والتي ازدادت اصفراراً حتى اللحظة.
تستحضر ذاكرتي أجواء قراءتي الأولى للكتاب ضمن مجموعة تتألف من خمس وثلاثين كتاب رافقتني في إجازة امتدت لشهر. لقد كنت فرحة وأنا أدفع أجرة صاحب المكتبة الذي كان فرحاً بدوره حين ودعّني شاكراً قائلاً: “مكتبتك عمو”. أما المكتبة وصاحبها والسوق .. فلم يعد لهم الآن أي أثر!
ومن فعاليات الشهر: حضرت دورة مهنية مكثفة في مدينة لندن لمدة أسبوعين .. كم كانت ثقيلة الظل!.
تسلسل الكتاب على المدونة: 18
التعليقات