لا غرابة! إنه إصدار إبداعي آخر للأديب الذي رحل بجسده ولم يُمحى أثره .. ففيه يترك أثراً بالغ العمق من جميل ما حمل في جعبته .. من أروقة الأدب وبحور الكتب وطيّات الفلسفة وألغاز الحياة، وعن الإنسان وصراعاته في محياه ومماته، ومن قصص متفرّقة عن مشاهير عالميين وأخرى مستمدة من حياة البسطاء، ممن قرأ لهم الأديب وممن عرف وممن لم يعرف .. وشيء من تجارب شخصية أثرى بها كل ذلك!
وعن الأديب الذي ما لبث أن حيّا القارئ فودعّه في عنوان كتابه .. هو محمد عبد الوهاب مطاوع (1940 : 2004)، الكاتب والصحفي المصري الذي حرر (باب بريد الجمعة) الأسبوعي في جريدة الأهرام المصرية خلال ما يقارب ربع قرن من الزمان، وساهم في زيادة نسبة التوزيع للأعداد الصادرة منها في ذلك اليوم تحديداً .. فقد كان يتلّقى أسبوعياً آلاف الرسائل من القرّاء وهي تحمل هموماً مادية أو صحية أو عائلية أو اجتماعية، فيتصدّى لها بأسلوب أدبي إنساني رفيع يجمع بين ثراء العقل وجزيل الحكمة مدعماً بالمأثور من القول .. وبمجهود شخصي يعينه فيه فريق عمله من أجل إعانة أولئك القرّاء واستقبال من أمكن منهم في مكتبه، حتى استحق وبجدارة لقب (صاحب القلم الرحيم) .. رحمه الله. وبالإضافة إلى المناصب التي تدرّج فيها خلال عمله الصحفي حتى وصل إلى منصب رئاسة التحرير، قد أصدر زهاء خمسين كتاباً تتضمن قصص إنسانية مختارة من بين رسائل بريد الجمعة، وشيء في أدب الرحلة، ومقالات في أروقة النفس والحياة.
يلفت الأديب في المقدمة نظر القارئ إلى “ملخص القصة كلها” التي تنحصر بين كلمتي “أهلاً” و “مع السلامة” .. ففي الوقت الذي يرحّب فيه بالقادمين، يودّع الراحلين .. مستقبلاً نسائم الحب والصداقة وكل معنى سامي يخفف من وطأة الحياة ويتسع به ساحات الصدق والجمال والإخلاص، وملوّحاً بيده “لكل شيء آن أوان انتهائه، وحل موعد إسدال الستار عليه” .. ففي الحياة، لكل شيء بداية ولكل شيء نهاية .. مهما طال المدى .. من الصداقة والشباب والصحة والنجاح والحب والإنجاز .. فيوصي “كما نسعد بالبدايات السعيدة، علينا أيضاً أن نتعلم كيف نتقبّل النهايات الحزينة لكل شيء في الحياة، ونسلّم بها ونتواءم معها”.
ومن الصور الإنسانية التي التقطها الأديب من خلال قراءاته في تراث الأدب الإنساني ومشاهداته المترامية في طول الحياة وعرضها، يسطّر بقلمه ترجمتها الأدبية في عدد من المقالات ومن خلال أبسط العبارات، حصد بها الكتاب رصيد أنجمي الخماسي كاملاً .. وهي:
- أشجان عابرة
- خلف النافذة
- أهلاً مع السلامة
- أحلام سعيدة
- ضحك كثيراً وبكى أكثر
- أشياء لا يفهمونها
- أين كبرياؤك
- لكنها مسألة وقت
- أعط غيري
- القاهرة الساعة 3
- لا أنت سقراط ولا هي زوجة الفيلسوف
- القصاصات الحائرة
- فوق المناقشة
ومن تلك المقالات التي أثقلها الكاتب بصور من الحياة، وأشجانها المتلاحمة، وتأملاتها التي لا تنقضي بانقضاء الإنسان، أدوّن ما علق في وجداني من ملامح مقالة (أشجان عابرة)، وباقتباس في نص عميق (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يستعين الأديب بصديق له “هاوٍ لعلم النفس” على اللحظات التي يجد فيها نفسه متعاطفاً مع أناس لا تربطه بهم صلة! كالأم الشابة التي وجدها في فجر أحد الأيام -عندما كان في رحلة لأداء مناسك العمرة- تطوف بالكعبة وهي تحمل طفلها الرضيع وتهمس له بأن يدعو لله كما تدعوه هي لشفائها .. والعائلة التي وجدها عائدة من إيطاليا بالباخرة -عندما كان في انتظار أحد معارفه ولوّح له بسلامة عودته مع كل المنتظرين لذويهم وأقربائهم وأحبابهم وأصحابهم وهتافاتهم المرحّبة- فإذا برب تلك العائلة يتذمر معاتباً بعدم وجود من مرحّب لهم .. وغيرها من المواقف التي ينفي فيها صديقه الهاوي وجود أي ميول اكتئابية، إذ أن “المكتئب تنحصر اهتماماته وأحزانه غالباً في ذاته، ولكن قمة السرور قد تكون في بعض الأحيان معادلة لقمة الاستعداد للحزن” .. فقد تُستدعى الأحزان الدفينة من صدر كل إنسان متى ما استثارها منبّه خارجي حزين .. ويؤكد كذلك بأنها “قد تجيء أيضاً في موقف لا يوحي للآخرين بالحزن” وذلك تبعاً لاستعداد كل إنسان في الاستجابة لدواعي الحزن أو محفّزات الابتهاج! فيقول الأديب عن موقف بلغ فيه من التأثر مبلغاً -قلّما ينم عن وجدان رجل بهذه الحساسية- عندما كان حاضراً في حفل زفاف يشهد زفة العروسين التي لن تطول عن نصف ساعة، ثم ينتقلان بعد ذلك إلى بيت الزوجية في مدينة أخرى: “وتأملت العروس الشابة وهى واقفة عند مدخل باب بيتها الذي تربت فيه بين إخوتها وأهلها، وأن لها الآن أن تغادره إلى بيت آخر ومدينة جديدة، فإذا رجعت إليه بعد ذلك فكما يجئ الضيف إلى بيوت الآخرين لفترة قصيرة وإقامة مؤقتة، وقد تبدد من نفسها إلى الأبد إحساس المقيم أو صاحب البيت .. فإذا بي أشعر بأسى غير مفهوم وسط دقات الطبول وأغاني المنشدين، وأتلفت إلى صديقي الواقف إلى جواري الذى لا تربطه صلة قرابة من أي نوع بالفتاة أو بعريسها فأجد الدموع في عينيه .. وأنظر إليه متسائلاً فيقول لي معتذراً: (عفواً فأنا لا أستطيع أن أحبس دموعي كلما شاهدت فتاة صغيرة تغادر بيت أهلها وأمها وإخوتها لتذهب إلى بلد آخر غريب عنها وحياة جديدة مجهولة لها لا تعرف أن كانت ستسعد بها أم ستشقى) فهززت رأسي متفهماً وأنا أشعر لأول مرة بأني قد وجدت من يشاركني هذا الإحساس الغامض ويعبّر عنه بما لا أستطيع من كلمات”.
ختاماً أقول كما نقل الكاتب عن قصة فتى ياباني في مقالة (أحلام سعيدة): بأن للأحلام الجميلة غير المحققة نصيبها من الامتنان، فلولاها لما كان لتحمّل حياة اليأس من جلد وطاقة .. ولولاها لما داعب الخيال طيف من السعادة ولو كان عابرا .. “فالحلم واحة جميلة وسط الصحراء القاحلة يستريح فيها الإنسان بعض الوقت من هجير الحياة .. لكن القافلة لا تتوقف في الواحة إلى النهاية، وإنما تلتقط أنفاسها فيها بعض الوقت، وتتزود بالماء والأمل والقوة .. لتواصل السفر من جديد”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (33) في قائمة احتوت (70) كتاب قرأتهم في عام 2022، وهو الكتاب رقم (9) ضمن (23) كتاب قرأتهم في شهر نوفمبر .. وقد كان ضمن مكتبة العائلة العريقة التي استحوذتُ عليها كاملة بما تضم من كتب قديمة قد لا تتوفر حالياً في المكتبات .. وهو كتاب يعود في طبعته الأولى إلى عام 1998 والثانية إلى عام 2001 وقد قرأته للمرة الأولى خلال تلك الفترة تقريباً، وأعود لقراءته للمرة الثانية اليوم، كعادتي بين الحين والآخر في قراءة قديم الكتب واسترجاع شيء من ماضي الفكر!
خاطرة: جاء الكتاب في وقت كنت قد أنهيت فيه علاقة عمل ما استمرت لمدة عام مع إحدى الجهات، وقد اعتبرتها فرصة مثمرة كبداية للاستمرار في نفس المجال .. وهو الوقت الذي تعاقدت فيه مع جهة أخرى .. وهو الوقت ذاته الذي كنت أسعى فيه للتعاقد مع ثالثة .. فأهلاً بالجديد القادم ومع السلامة للذي آن أوان انقضائه .. ولا مجال حتماً للصُدف!
وعلى أرفف مكتبتي الجوداء يصطف 42 كتاب آخر للكاتب في طبعاتها الأولى، اقتنيتها جميعاً وأنا في سن مبكرة جداً، وهي مجموعة أسالت الكثير من دموعي .. رغم هذا، فهي من الكتب المحببة لدي والتي لا أتردد في تصنيفها بـ (تستحق القراءة وإعادة القراءة).
من فعاليات الشهر: لا شيء سوى مصارعة الوقت لقراءة المزيد من الكتب وتعويض ما فات خلال العام .. وقد أجّلت عمل الأمس إلى اليوم كثيراً والذي أصبح فائتاً كذلك! وهو الشهر الذي خصصت معظمه في إعادة قراءة عدد من الكتب ذات الإصدارات القديمة.
تسلسل الكتاب على المدونة: 364
رائع جدا استمري نتمنا لك التقدم والنجاح
شكراً جزيلاً على الإطراء والمتابعة .. وأرجو لك التوفيق كذلك