لا تستهويني الروايات ولا السير الذاتية في العموم، إلا أن آذر نفيسي (ديسمبر 1955) قد أبدعت في انتقاء أزهاراً ذات عبق مميز من باحة ذكرياتها عندما قررت استدعاء ذاكرتها البعيدة وهي في العقد السابع من عمرها، إذ هي تحصد من خلال سيرة حياتها الممتدة خبرات طفولية واجتماعية وثقافية، وأخرى دينية وسياسية، ما يثري وبعمق حصيلة القارئ، التي لا بد لها وأن تتقاطع في كثير من جوانبها مع أقرانها المنتمين إلى نفس الثقافة والفترة الزمنية .. وهي ذاتها الخبرات التي شكّلت ما هي عليه الآن، ككاتبة وكأستاذة للأدب الإنجليزي في جامعة جونز هوبكنز والحاصلة على درجة الزمالة من جامعة أوكسفورد.
قد يحمل الأدب النسوي في الخصوص امتناناً لدى القارئات، لا سيما اللاتي يجدن من أفكارهن ومشاعرهن وظروفهن وأقدارهن ما تبوح به أديبات لم يصادفهن في الحياة، فضلاً عما تحمله سيرة كل أديبة منهن من تصاريف القدر العنيدة التي واجهنها بتحدٍ وإصرار، ما يحمل على الإكبار والاقتداء والتعاطف والحب.
تقسّم آذر الذكريات التي تحملها سيرتها المثقلة بكل تناقض إلى أربعة أجزاء رئيسية، والتي تتطرق فيها إلى تفاصيل تثري القلب والعقل معاً، وهي:
- قصص الأسرة الخيالية
- الدروس والتعلم
- سجن أبي
- تمردات وثورة
… ومن أروقة الذكريات التي جاءت عن ترجمة من نصّها الأصلي (Things I’ve Been Silent About – By: Azar Nafisi)، أسرد في الأسطر القليلة القادمة شذرات مما علق في ذهني بعد القراءة:
- تنشأ آذر في نمط علماني لعائلة تعتنق الدين كتقليد لا كعقيدة، يسودها الجو الدبلوماسي، فوالدها محافظ مدينة طهران ووالدتها عضوة في البرلمان إبان حكم آل بهلوي. وعلى الرغم من ارتباطها بعلاقة شائكة مع والدتها منذ صغرها استمرت حتى بعد هجرتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ساهم والدها بشكل مؤثر في تشكيل شخصيتها من خلال حرصه على غرس روح الهوية الفارسية في نفوس أبناءه ككل، لا سيما وهو يقصّ عليهم أخبار ملحمة الشاهنامة وأساطيرها وبطولاتها وأشعارها.
- وهي إذ تعود إلى اللوحات التذكارية التاريخية وأدبيات الثقافة الفارسية، وتلك التحولات السياسية التي عصفت ببلادها ابتداءً من سيطرة شاه إيران وخططه الإصلاحية، مروراً بمرحلة الاضطرابات وثورة الخميني، انتهاءً بسقوط البهلويين وإعلان قيام الجمهورية الإسلامية، فإنها تستعين بتلك الرحلة الطويلة التي خاضتها في صراع مع والدتها افتقرت إلى عاطفة الحب الفطرية، ما ساهم في بلوغها مرحلة النضج سريعاً، وقد توقفت طويلاً من ذي قبل في إدامة النظر والبحث والتأمل والتفكر حول ما يجري .. وهي بهذا تجمع بقلمها في هذه السيرة الأواصر التي عقدت بين أفراد العائلة، مهما بدت واهية ومهما كان الصراع.
- هي لا تحمل فقط سيرة امرأة طموحة نجحت في أن تكون كما تريد تحت ظروف درامية .. قاهرة أسرياً واجتماعياً وسياسياً، بل تلقي بنظرة داخلية واسعة المدى على الحياة في ايران والتحولات الجذرية التي طرأت عليها خلال قرن من الزمان .. إبان حكم الشاه القمعي وفي أعقاب الثورة، وهي تستعرض الملامح العميقة التي حفرت وجه الثقافة الفارسية بتنوع حضاري، منذ عصر الزرادشتية، ثم عهد القاجار، متبوعاً بالفتح الإسلامي وحكم العرب، حتى صعود البهلويين وسقوطهم على يد الخميني، وانتهاءها بالثورة الإسلامية حتى الوقت الحالي.
- إنها ذكريات آذر الطفلة .. في البيت والمدرسة والمجتمع! هنا والدتها الجوفاء بقسوتها التي لا بد وأن تثير حنق من قرأ وعرف، هنا والدها الحزين الذي قاسى وأهله الأمرّين تحت حكم الشاه الذي أودعه السجن وأخضعه للتحقيق في شبهة فساد كان بريئاً منها .. والديها اللذان ما برحت الخلافات تشتعل بينهما حتى احتلت مساحة مؤثرة في مذكّراتها، وقد أصبحت وهي في سن صغيرة حليفة والدها في زواجه البائس .. هنا كذلك ذكريات آذر الشابة وهي زوجة للمرة الثانية بعد انهيار زواجها الأول سريعاً، تتلوها ذكرى وطن عزيز ينحلّ تحت ناظريها، ابتداءً من سقوط آل بهلوي وصعود الثوريين، الخطب الجلل الذي ما لبث حتى أعقبته الحرب الايرانية-العراقية .. وهلم جرا!
تحظى هذه السيرة بثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، والتي أقتبس من أروقتها العتيقة في نص عبق عمّا تفتّحت عليه عينا آذر من رؤى شحذت ملكتها الفكرية وهي لا تزال في سن مبكرة (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
“هنالك أشكال كثيرة من السكوت: السكوت الذي تفرضه بالقوة السلطات الاستبدادية على مواطنيها، وتسرق ذكرياتهم، وتعيد كتابة حكاياتهم، وتفرض عليهم هوية أجازتها الدولة. أو سكوت الشهود الذين يفضلون تجاهل الحقيقة أو عدم التحدث عنها، وسكوت الضحايا الذين يصبحون غالباً شركاء في الجرائم التي ارتكبت ضدهم. ومن ثم هنالك أنواع من السكوت نطلق العنان لها تتعلق بذواتنا، وأساطيرنا الشخصية، والقصص التي نفرضها بالقوة على حيواتنا الحقيقية. قبل أن أتمكن من تقدير الطريقة التي يفرض بها النظام السياسي عديم الرحمة صورته الخاصة على مواطنيه، سارقاً هوياتهم وتعريفاتهم لأنفسهم، بزمن طويل، كنتُ قد خبرت مثل هذه الأعباء الثقيلة في حياتي الخاصة .. حياتي في كنف أسرتي. وقبل أن أفهم ماذا يعني بالنسبة للضحية أن تصبح شريكة في جرائم الدولة بزمن طويل، كنتُ قد اكتشفت، بمصطلحات شخصية أكبر بكثير، عار الاشتراك في الجريمة. هذا الكتاب، بمعنى من المعاني، إجابة عن ماذا. أسئلة رقيبي ومحققي الداخلي”.
في الختام، فإني أتطلع لقراءة الجانب الآخر من سيرة آذر نفيسي في كتابها (أن تقرأ لوليتا في طهران) والذي يصطف إلى جانب هذه السيرة فوق أرفف مكتبتي، وقد تطرّقت فيه -كما اطلعتْ- إلى الأوضاع التي آل إليها وطنها تحت حكم الملالي حين عاينتها أثناء زيارة لها بعد هجرتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية واستقرارها هناك .. غير أن الشعور الذي ينتاب القارئ في هذه السيرة يسيل له دمعه، ليس سوى دليلاً على صدق ما جاء فيها .. فما يصدر من القلب يصل حتماً إليه.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل السيرة (27) في قائمة ضمت (85) كتاب قرأتهم عام 2019 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (80) كتاب فقط! وهي آخر ما قرأت في شهر ابريل من بين سبعة كتب .. وقد حصلت عليها من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2018 ضمن (140) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
من فعاليات الشهر: كنت أحاول قراءة ما أمكنني من الكتب وذلك لحلول شهر رمضان المبارك في الشهر التالي له، وهو الشهر الذي انقطع فيه لما ينبغي له من طاعة بعيداً عن أية ملهيات، والتي اعتبر القراءة من ضمنها، في هذا الظرف الروحاني تحديداً.
تسلسل السيرة على المدونة: 145
التعليقات