لا يختلف فيلسوف المجتمع الإغريقي في حقبة ما قبل الميلاد عن ذكران المجتمع الشرقي في الألفية الثالثة للميلاد، في علّة الدونية المتأصلة إزاء كل ما هو أنثوي .. وهذا الخلف من ذاك السلف، وإن اختلف اللون واللسان والزمان والمكان!.
لقد كان الباحث العربي من الرجولة -وهو على درجة أكاديمية مرموقة- ما ألقم هذا الأرسطو المتفسّخ في قبره حجراً! إذ ما المرأة إزاء الرجل لديه سوى بمثابة العبد من السيد .. فهو الحاكم وهي المحكومة، وهو بطبيعته متطور أما هي فما دون الخلقة الطبيعية، بل ما هي إلا رجل ناقص توقف نموه البشري في سلم التطور أو “سلم الموجودات”، وهي كالأعمال اليدوية أمام الأفكار العقلية، وهي لا رأي لها ولا إرادة ولا استقلالية، بل ناقصة ضعيفة لا يصلح لها سوى بيت تقبع فيه تمارس فيه أعمالاً اعتيادية، ولتصمت! فالصمت زينتها، وعليها السمع والطاعة، فشجاعتها التي لا تضاهي شجاعة الرجل تكمن في طاعته…!!! وهو إذ أبدى رأيه في المرأة، فلا يغفلنّ بأن من أنجبته امرأة، وعليها ابتداءً يسري رأيه السقيم.
لا يأتي قول سقيم كهذا من فراغ، فقد اتبع أرسطو سنّة معلمه المقبور أفلاطون، الذي صحبه عشرين عاماً، حين حصر المرأة في درجة متدنية ضمن جمهوريته المثالية، غير أن أرسطو قد فلسف هذه الدرجة من خلال دعائم الميتافيزيقيا الثلاث، وهي: أولاً: (هيراركية الكون): حيث تصوّر الكون في شكل تصاعدي يبدأ من الأدنى إلى الأعلى، كالجماد ثم النبات ثم الحيوان ثم الإنسان، ثم ما يعلوه من كون فسيح بأجرامه، وصولاً إلى الآلهة. وفي هذه التراتبية، يظهر الأدنى في خدمة الأعلى، والمرأة في خدمة الرجل. ثانياً: (فكرة الوظيفة): ويقصد بها الوظيفة التي يؤديها كل كائن على الأرض، ويستمد منها بالتالي هويته الجوهرية. ومن خلال تفاوت الوظائف، يخضع الأدنى للأعلى، وتخضع المرأة مع فئة العبيد والحرفيين والتجار كأدوات تخدم الرجل الذي يُصنف كـ “قمة الإنسان” للقيام بوظائفه العقلية على أكمل وجه، بغية تحقيق سعادته القصوى. ثالثاً: (الهيولي والصورة): فكل الموجودات تتكون في أصلها من مادة وصورة، فـ (الهيولي) هو المادة أو العجينة التي يتشكل منها قالب ما أو (صورة) ما، كالخشب الذي يُصنع منه منضدة، بحيث يكوّن الخشب المادة الخام، والمنضدة الصورة النهائية. وللصورة عند أرسطو أكثر أهمية من الهيولي، فهي العنصر الجوهري الذي يحدد ماهية الشيء، وهي تمثل العنصر العقلي مقابل العنصر المادي أو الهيولي. وعند تطبيق هذا المبدأ على الكائنات الحية، يتربع الإنسان على البناء الهرمي لحظوته بـ “النفس العاقلة”، يليه الحيوان ثم النبات ثم الجماد. وعند أرسطو، يمثل الرجل (الصورة) وتمثل المرأة (الهيولي)، فهي أدنى مرتبة من الرجل لطبيعتها التي تنطوي على نقص لا يمكّنها من خلق حيوان منوي يحمل إنساناً كاملاً، كما يفعل الرجل.
يفتح فهرس الكتاب بابين رئيسيين يعرضان من خلال عدة فصول مواضيع فرعية هامة، حصد بها الكتاب رصيد أنجمي الخماسي كاملاً. وهي:
الباب الأول: بناء النظرية
- الفصل الأول: لبنات من الابستمولوجيا
ويتطرق فيه الباحث إلى: أولاً: الرغبة في المعرفة / ثانياً: المعرفة
- الفصل الثاني: دعائم الميتافيزيقيا
ويتطرق فيه الباحث إلى: أولاً: هيراركية الكون / ثانياً: فكرة الوظيفة / ثالثاً: الهيولي والصورة
الباب الثاني: التطبيقات العملية
- الفصل الأول: الأنثى والبيولوجيا
ويتطرق فيه الباحث إلى: أولاً: اهتمام أرسطو بالبيولوجيا / ثانياً: البيولوجيا وطبيعة الأنثى / ثالثاً: دور الذكر والأنثى / رابعاً: تحديد الجنين / خامساً: كيف تتم المساهمة؟ / سادساً: ضعف الأنثى / سابعاً: نتائج
- الفصل الثاني: المرأة والسياسة
ويتطرق فيه الباحث إلى: أولاً: نشأة الدولة / ثانياً: الأسرة ووضع المرأة / ثالثاً: الرجل ومركزه في الأسرة / رابعاً: الرجل والعلاقات الزوجية (1. الزواج / 2. الزوج / 3. سن الزواج) / خامساً: طبيعة النفس
- الفصل الثالث: المرأة والأخلاق
ويتطرق فيه الباحث إلى: أولاً: هيراركية الأخلاق / ثانياً: أخلاقيات الأسرة (1. واجبات الزوجة / 2. واجبات الزوج)
ومن هذه المسائل، أرصد ما توهّج في ذهني من وميض بعد قراءتها، وباقتباس في نص مكين (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- يخلص الباحث في (الفصل الأول: الأنثى والبيولوجيا) بجملة من النتائج التي وجهها كنقد لأرسطو، عندما أقبل على دراسة البيولوجيا وهو يضع في ذهنه مسبقاً مجموعة من الأفكار آمن بها كحقائق ثابتة!. لقد اعتنق أرسطو ما كان شائعاً في المجتمع الأثيني آنذاك، من “دونية المرأة، وانحطاط قواها العقلية، وسيطرة انفعالاتها وشهواتها عليها”، الخصائص التي تجعل منها خاضعة ومستسلمة للرجل، الذي يعلو لديه الجانب العقلي ويسيطر على الجانب غير العقلي. فيدحض الباحث تلك الأفكار باعتبارها إما موروثاً اجتماعياً أو نقصاً في الأدلة، “وإلا فمن أين جاء بالفكرة التي ترى أن المرأة لا بد أن تكون هي «الهيولي» وأن يكون الرجل هو الصورة التي هي أعلى وأرقى وأسمى؟ ولم لا يكون العكس؟ وما هي الأدلة أو البراهين العقلية على أن الرجل يسهم في عمليه التوالد بالصورة التي هي «الروح»، وبالتالي فالحيوانات المنوية ليست «مادة» وإنما هي وسيلة انتقال تعبر عليها الروح إلى دماء الطمث لتطبع عليها لكي يتخلق الجنين ويظهر؟ قد يقال إن أرسطو لم يكن يعرف ماهية الحيوانات المنوية، وهذا حق، لكنه لم يكن يعرف شيئا أيضاً عن البويضة”. لقد تمسّك أرسطو وهو يبحث في العلوم البيولوجية بعدد من المبادئ الميتافيزيقية، التي أراد أن يُسقط عليها أمثلة تطبيقية في العالم الواقعي، لذا تحدث عن الصورة والهيولي والأعلى والأدنى والهيراركي والوظيفة. يستمر الباحث في نقد فلسفته قائلاً: “إنما كان يعرف عن يقين أن المرأة لابد أن تكون أقل مرتبة من الرجل تبعاً للهيراركية العامة للموجودات، وهي فكرة ميتافيزيقية لا برهان عليها، وبالتالي فلا بد أن يكون هناك من هو أدنى، ومن هو أعلى، لا بد أن يكون هناك سيد ومسود، حاكم ومحكوم، فليس ثمة مساواة بل تفاوت طبيعي واضح. ولما كان العرف اليوناني قد جرى على أن تكون المرأة هي الأدنى، وهي المحكومة، وهي التي تطيع .. الخ، لهذا كانت هي المادة أو الهيولي، وكان الرجل هو الصورة والروح والمبدأ العقلي”.
- وأرسطو إذ يمتح من مبادئه الميتافيزيقية ويعتبر “أن الذكر هو الإيجابي النشط الذي يبعث الحركة، ويهب الحياة في المادة” بينما يقتصر دور الأنثى على “تقديم سائل الطمث، ومن ثم فهي تمثل الجانب السلبي المتقبل فحسب”، فهو يُسقط استنتاجاته غير البرهانية بالضرورة، على عالم السياسة، عندما ينصّب الذكر من جديد كعنصر إيجابي، “فهو الذي يحكم ويحفظ، ويدير شئون السياسة في الدولة، وفي المنزل، وهو الذي يأمر، أما الأنثى فليس عليها سوى السمع والطاعة. ولهذا سيكون من المنطقي في عالم الأخلاق أن يصبح الصمت هو زينة المرأة وتاجها، لكنه ليس كذلك بالنسبة للرجل”.
- يصرّ أرسطو على إيجاد مثال واقعي يتمكن من خلاله إسقاط نظريته الميتافيزيقية، لا سيما وهو يصطدم بمجتمع تحكمه عادات وتقاليد ويسوده نظام رق ووضع متدني للمرأة، فأصبح بدوره مثالاً حياً لمقولة السياسي والكاتب والناقد الإيرلندي جورج برنارد شو عندما قال: “الرجل الأمريكي الأبيض يهبط بالزنجي إلى مستوى ماسح الأحذية، ثم يستنتج من ذلك أن الزنجي لا يصلح إلا لمسح الأحذية”. لذا، يستمر الباحث في هتك عرى فلسفة أرسطو الواهية، الذي دعا إلى الوقوف على طبيعة المرأة من أجل التعرف على “ضعفها، وضعها، دورها، وظيفتها، مركزها .. إلخ”، وقد وظّف هذه الطبيعة التي آمن بها في تحديد آرائه الأخلاقية والسياسية عن المرأة، فقد كان يرى بأنه “ليس في استطاعة المرأة أن تعرف شيئا عن طبيعتها، لأن عقلها لا يستوعب هذه الدراسة، وليس لديها قدرة على تحمل المسائل النظرية أو فهمها. ولهذا فإن فضيلة الرجل الأساسية هي أن يسيطر على المرأة ويجبرها على طاعته، أما الرجل الذي يعامل المرأة على قدم المساواة ويتصور أنها مساوية له أو أنها «ند»، فإنه يسلك في الواقع سلوكاً مخجلاً ومشيناً”.
- يتوصل أرسطو إلى مفارقة عجيبة تجعل من إنجاب المرأة لذكر يشبه أباه هي في الحقيقة “الوظيفة الكاملة للأنثى”، على الرغم من أن السلوك الطبيعي للكائن الحي هو إنجاب كائن آخر يشبهه، لكي يشاطره الخلود. “فما معنى ذلك؟ معناه أن إنجاب الذكور للذكور هو علامة تميزه وتفوقه”، كما كان الحال في أسطورة هرقل البطل الذي أنجب اثنين وسبعين ولداً وبنتاً واحدة، “أما إنجاب الإناث للإناث فليس علامة تفوق، وإنما هو قصور سببه عدم المزج الصحيح لدماء الطمث وعدم إعداده إعداداً مناسباً لاستقبال الصورة. وهكذا يصل أرسطو إلى نتيجة حاسمة هي أن وظيفة المرأة الكاملة هي أن تخلق الظروف المناسبة التي ينتشر فيها عنصر الذكر والتي تمكنه من أن ينعم بالخلود”. يفسح هذا القول الرّث المجال للبروفيسورة ليندا لانج لأن تحقّر من هذه النظرة التي تجمع بين كلمة (ذكر) وكلمة (بشر) لتجعل منهما شيئاً واحداً، وهي نظرة لا تزال سائدة حتى اليوم! فتقول: “إن النظرة التي ينبغي احتقارها هي هذه النظرية القضيبية للعالم”.
- يستمر الباحث في تقريع فلسفة أرسطو التي وقع فيها الكثير من المغالطات بناءً على ركاكة البناء البيولوجي الذي بنى عليه استنتاجاته، فيقول: “لابد أن نشير سريعاً إلى أن المعلم الأول وقع في كثير من الأخطاء البيولوجية حتى قيل: إن مؤلفات أرسطو في البيولوجيا غريبة، فهي خليط مشوه من الشائعات، والأقاويل، والملاحظات الناقصة، والتفكير بالتمني، والسذاجة، وسرعة التصديق”. فيطرح عينة من استنتاجاته يضع حيالها سؤالاً: من أين لك هذا يا أرسطو؟ فيقول: “ما هي الشواهد التي أقنعت أرسطو بأن السائل المنوي للشباب فيما بين سن البلوغ وسن العشرين خال من التخصيب؟ وأن الشباب من الرجال والنساء ينسلون ذرية ناقصة وأصغر من الحجم العادي؟ وأنه إذا حدث الحيض ثلاث مرات في الشهر دلّ ذلك على أعراض للرغبة الجامحة المفرطة”.
- يعقد الباحث -في متن بحثه وحواشيه- مقارنة فاضحة بين ما جاء في فلسفة أرسطو من روث، وما طفح به إحياء علوم الدين للغزالي، عن (واجبات الزوجة). إذ أن المرأة (الفاضلة) عند أرسطو “هي التي تكون ربة منزل من الطراز الأول، تسهر على تربية الأطفال”، بينما المرأة (الصالحة) عند الغزالي “أن تكون قاعدة في قعر بيتها لازمة لمغزلها، لا يكثر صعودها وطلوعها، وأن تقوم بكل ما تقدر عليه، وأن تحفظ بعلها في غيبته، وتطلب مسرته في جميع أمورها”. أما من ناحية الحيطة والحذر والترقب والتشمم، فعند أرسطو “ينبغي ألا تسمح لأحد بدخول المنزل بدون علم زوجها” بينما يحذّر الغزالي في حالة “إذا استأذن صديق لبعلها على الباب، وليس البعل حاضراً، لم تستفهم ولم تعاوده الكلام غيرة على نفسها وبعلها”. وعن (الصرمحة) هنا وهناك وبث سمّ الأفعى الزعاف، فيوصيها العم أرسطو بأن “تبتعد عن القيل والقال وما تمارسه النسوة المتسكعات اللائي ينتقلن من منزل إلى آخر ويعملن على تسميم النفوس”، بينما يعلمّها العالم بالله الغزالي كيف تكون “قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول”. ومن وجهة نظر اقتصادية أرسطية سابقة لأوانها، فعليها “أن تكون مدبرة، فتضبط نفقات البيت”، أو كما جعل الغزالي من إحدى واجباتها “ألا تفرط في ماله وتحفظه عليه”. وعندما تأخذ جملة نصائح الفطحلين منحى آخر، يوصيها أرسطو بالتقشف والقناعة وبالبحث عن الجمال في صور أخرى، كأن “تجعل حدوداً معينة من الإنفاق على اللباس والزينة، واضعة في اعتبارها أن الجمال لا يعتمد على الملابس الغالية الثمن، ولا على كثرة المجوهرات”، وقد جعل الغزالي “من آدابها ألا تفاخر على الزوج بجمالها، ولا تزدري زوجها لقبحه”.
- لقد كان لافتاً للنظر، والباحث يستقرئ سيرة أرسطو، بأنه رغم نظرته الدونية للمرأة، ورغم الجو الخانق الذي كان يعتصر نساء المجتمع الأثيني، فقد تعّرف أرسطو على نخبة من النساء لم يكنّ إطلاقاً على تلك الصورة النمطية! حيث عرف (أوليمبياس) والدة الإسكندر المقدوني، التي عُرفت بالذكاء الحاد ورجاحة العقل والفكر المتزن وقوة الشخصية، وقد حرصت على تهيئة ابنها ليصبح القائد خلفاً لوالده الملك فيليب، السكّير زير النساء، وكانت تواظب على زيارة المدرسة التي كان يتلقى فيها تعليمه مع أبناء الأمراء، حيث التقاها أرسطو. وتذكر الأخبار بأنه كان يهرع إلى عربتها الملكية متى وصلت، من أجل لقائها، أما هي فلم يثر إعجابها بالمرة، حيث قالت فيه: “ليس عنده ما يقوله من أفكار، وهو نحيل ألثغ”. لقد عرف أرسطو كذلك الشاعرة سافو، “الربة العاشرة للفنون” كما قال عنها أفلاطون، و “الجميلة” كما نعتها سقراط دلالة على عبقريتها. لقد عرف أيضاً (أسباسيا) رفيقة حاكم أثينا، والتي حرص على حضور صالونها الأدبي مع عدد من رجال أثينا البارزين، وقد أطلق البعض عليها لقب “الإلهة الملكة”. كذلك، استمع أرسطو إلى نظرية (ديوتيما) في الحب، وقد كانت إحدى الشخصيات النسائية اللامعة التي برزت في عصره، والتي روى عن نظريتها في كتابه (محاورة المأدبة). وهنا، يتصدى الباحث بتحليل هذا التناقض الصارخ بين واقع أرسطو المعاش مع نساء رائدات وبين أقواله فيهن، فيقول: “لكن أرسطو غض الطرف عن هذه النماذج المضيئة اللامعة في عصره ليأخذ بفكرة رجل الشارع، وراح يبحث لها عن تبريرات وأسانيد ليقيم نظرية فلسفية متكاملة يستمد جوانبها من أفكاره الميتافزيقية، التي اعتقد أنها حق لا ريب فيه، ثم أخذ يطبقها في ميدان البيولوجيا والسياسة والأخلاق، ليجعل من المرأة «رجلاً ناقصاً» ليس لها دور في هذه الدنيا سوى الإنجاب وتربية الأولاد. وأخطر ما في نظرية أرسطو أنه يذهب فيها إلى أن الطبيعة التي لا تفعل شيئا باطلاً، هي التي جعلت المرأة على هذا القدر من الدونية، وليس للعادات أو التقاليد أو أفعال المجتمع، ولا سيما المجتمع الذكوري، دخل في تحديد هذه الدونية”.
- وبناءً على نظرية أرسطو التي تجعل من الطبيعة الفاعل الأكبر في تشكيل المرأة على ما هي عليه من دونية، يتصدى الباحث للأقوال المحابية التي تلتمس لأرسطو العذر، في كونه رجل من قومه، وهم يتساءلون في استغراب: “وهل يمكن للفيلسوف أن يخرج عن إطار عصره؟ ألسنا نطالب أرسطو بأكثر مما في قدرته عندما نريده أن يرتفع فوق أفكار العصر لينقذ المرأة مما هي فيه من أوضاع مشينة؟ ألم يقل هيجل: إن كلا منا هو ابن عصره، وربيب زمانه؟ ألم تعبر نظريته عن أفكار جميع المثقفين والمفكرين والشعراء والفنانين في عصره؟”. إن الباحث وهو يتصدى لهذا الرأي، يفتح مجالاً واسعاً للبحث في حقيقة ما كان عليه المجتمع الأثيني المنقسم فكرياً وأدبياً واجتماعياً وأخلاقياً، بين زمرة الفلاسفة وزمرة السوفسطائيين، ومدى صدق الروايات التي تنقل صورة شائهة عن الزمرة الثانية قد لا تكون بالضرورة صحيحة تاريخياً. فيقول الباحث: “إذا كانت الآراء والأفكار والعادات والتقاليد .. إلخ في المجتمع الأثيني تحط من شأن المرأة، فقد ذهب السوفسطائيون إلى أن هذه الآراء مكتسبة لا فطرية ولا طبيعة، ومن ثم فهي تتغير بتغير المجتمع. وذهب زعيمهم (بروتاجوراس) إلى أن الإنسان، لا الطبيعة، هو مقياس الأشياء جميعاً. ومعنى ذلك كله أنه إذا كان هناك صراع في الفلسفة اليونانية بين أنصار الطبيعة، أي الفطرة، وبين أنصار العرف أو المكتسب، فقد انتصر السوفسطائيون للفريق الأخير وكانوا من أعلامه. فإذن كان في عصر أرسطو من يرد الأفكار إلى العادات والتقاليد، ولا يجعل فيها شيئاً من عمل الطبيعة التي أتعبها أرسطو وأثقل كاهلها بأفكاره، ورأى أنها لا تفعل شيئاً باطلاً لأنها تؤيد فلسفته. ومع ذلك رفض أرسطو الأفكار السوفسطائية وسخر منها، وحاربها بعنف، بل ذهب إلى أنهم غير جديرين بحمل لقب الفلاسفة”.
- لم تنحصر فلسفة أرسطو بين زوايا المجتمع الأثيني، أو تنحسر بمرور الزمن، بل خيمّت بظلامها على الوعي الجمعي خلال العصور الوسطى، في الغرب المسيحي وفي الشرق الإسلامي، ما جعل من تلك الثقافات تصطبغ بالفكر الأرسطي على درجة بالغة، وهنا مكمن الخطر. يقول الباحث: “وأخطر ما في نظرية أرسطو أيضاً تأثيرها الهائل وسيادتها على الفكر البشري طوال العصور الوسطى، مسيحية وإسلامية معاً، وغلبتها على عقول المفكرين، أو قل: إنها لاءمت هواهم، وسايرت عاداتهم وتقاليدهم وأعطتهم الأساس الفلسفي الذي يبقى وضع المرأة متردياً، فلم تتغير هذه الأفكار إلا بعد أن تغير المجتمع الأوربي ولا سيما في إنجلترا في القرن التاسع عشر، وكان أول من حمل لواء الأفكار اللبرالية الجديدة هو الفيلسوف الإنجليزي جون ستيورات مل، فدعا بقوة إلى تحرير المرأة وإعطائها حقوقها السياسية، عندما كان نائباً في البرلمان”.
- يظهر الفكر الأرسطي جلياً في النظرية الدينية التي تجسّد الشيطان في صورة امرأة وتجعلها رمزاً للنجاسة ومكمن للشهوة وهي ككل رأس الخطيئة، إذ “ربط الفلاسفة المسيحيون بين المرأة، ولا سيما جسدها، وبين الخطيئة الدينية، وأصبحت المرأة رمزاً للجنس، ودعوة للشهوة، ورسول الشيطان، أو بوابة جهنم، وأساس الرذيلة، والمنزلق الخطر الذي ينبغي على الرجل أن يتجنب الوقوع فيه”. ويدعو الباحث بإمعان النظر في الوضع القائم الذي لا يشذّ عن ذلك الموروث المسموم، فيقول: “وفي استطاعتك أن تتلفت حولك لتجد معظم الأفكار الأرسطية وقد اصطبغت بصبغة دينية تارة أو اجتماعية وأخلاقية تارة، وهي في الأعم الأغلب تدور حول الجنس. فنحن لا يشغلنا في حياتنا شيء قدر ما تشغلنا المسائل الجنسية التي جعلنا المرأة تجسيداً لها، وكأنها تمارسها منفردة، وربما يعود ذلك إلى ما نعانيه من كبت جنسي، أو قصور في فهمنا لهذه الغريزة، أو الممارسات السيئة لإشباعها”.
ولأنني أتطلع دائماً للكتب التي سيقترحها أي كتاب أقرؤه، من خلال مادته أو مراجعه، فقد وجدت في هذا الكتاب ما سرّني. فمن الكتب التي سأسعى لاقتنائها بفضل هذا الكتاب، هي: الشيخوخة – لمؤلفته: سيمون دي بوفوار / عصر القضيب – لمؤلفته: إيفا كيولز / الحضارة المصرية القديمة – لمؤلفه: جوستاف لوبون/ أفكار ومواقف – لمؤلفه: د. إمام عبدالفتاح / أفلاطون والمرأة – لمؤلفه: د. إمام عبدالفتاح
ختاماً، لقد كان لهذا الموروث السقيم تجاه المرأة، من فكر فلسفي وعُرف اجتماعي ونظرية دينية، الدور الأخطر في تشكيل مصير سوداوي لا زالت امرأة الألفية الثالثة تتخبط في ظلماته في سبيل الحصول على فتات من حقوقها الفطرية المسلوبة. وصدقت سوزان جورج بل، الناشطة والباحثة الأمريكية الرائدة في حركة تحرير المرأة، حين قالت: “إن الصورة التي رسمها أرسطو للمرأة بالغة الأهمية فقد ترسبت في أعماق الثقافة الغربية واصبحت الهادي والمرشد عن النساء بصفة عامة”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (49) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتهم من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن لم تسمح ظروف الحياة لمجابهته! وهو تاسع كتاب اقرؤه في شهر ديسمبر من بين سبعة عشرة كتاب .. وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في يوليو من عام 2020، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
ومن فعاليات الشهر: لقد جاء حماس القراءة في هذا الشهر مضاعفاً، وذلك للإجازة الطويلة التي بدأتها في خواتيمه، وللترقّب في حضور معرض للكتاب الذي سيُعقد الشهر القادم من العام الجديد بإحدى المدن العربية.
تسلسل الكتاب على المدونة: 325
التعليقات