كتاب ظريف يضم تسع وعشرين أقصوصة عن عرب شبه الجزيرة من يمان وغساسنة ومناذرة وغيرهم، غير أنها لا تتطرق إلى تاريخ القوم -كما يظهر في العنوان- إلا بالنزر اليسير، كصلاتهم مع الأمم الأخرى المجاورة مثل الأحباش والفرس والروم، إذ تصوّر في أغلبها حال أولئك العرب في حلهم وترحالهم وسلمهم وحربهم ومروءتهم ودسائسهم وسائر معاشهم.
ففي الكتاب الذي استحق نجمتين من رصيد انجمي الخماسي، هنالك قصة (فينيقيون قبل فينيقيا) وقصة (كولومبس الشرق) وقصة (عام الفيل) وقصة (مدينة في الصخر) وقصة (المدينة التي بناها الجن) وقصة (الريح العقيم) وقصة (نداء العرض). غير أن قصة (المرأة إذا شاءت) قد راقت لي دوناً عن غيرها من الأقاصيص، والتي أضع لها تلخيصاً بقلمي في الأسطر التالية، وباقتباس في نص عريق (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
عندما أراد الحارث بن عوف سيد بني مرّة أن يتزوج، كانت أوار الحرب تستعرّ بين قبيلتي عبس وذبيان، حتى كاد ألا يُبقي كل طرف من الآخر حيّاً. أما جليسه خارجة بن سنان المري فقد أعجزه عندما أجابه بأن أوس بن حارثة الطائي لن يزوّجه إحدى بناته، وذلك حين سأله الحارث وهو متباه بجاهه وماله فيما إذا كان أحد العرب رافضه لو طلب إحدى بناتهم!. ما يلبث أن تأخذه العزّة، فينطلق نحو ديار أوس ومعه خارجة، فيجد أوساً الذي يسمع لطلبه فيرفض، ثم ما يلبث أن يلحق به ليرجع به إلى ديارهم ضيفاً ومباركاً بزواجه من إحدى بناته، وذلك بعد أن وبّخته زوجه على فعلته التي قد تسبب في بقاء بناته عانسات مدى الدهر. ترفض الكبرى لقبح ونحافة فيها، فلا الحارث ابن عمها ولا هو جار ديارهم ليتحمّلها، فيطلّقها! وترفض كذلك الوسطى، فهي خرقاء غير ذات صنعة حسب تقديرها، وإن الحارث ليس بابن عم لها ولا ابن الجوار ليتحمّلها، فيطلّقها! أما الصغرى بهيسة، فتقبل، وتُزف له، حتى إذا اقترب منها في ليلتهما الأولى حجّته بالحياء .. فإنما هي لا تزال عند والديها وإخوتها. حتى إذا انطلق بها قافلاً نحو دياره، أعاد الكرّة، فاستقبحت أن تبدو كما الأمة أو السبية .. إنما بعد أن ينحر ويولم وليمة عامرة تليق بمقامها. يفعل، ثم ما أن أراد أن يخلو بها ليلاً وقد كفّى ووفّى، نهرته وعابت عليه أن يكون بلا مروءة تنهاه وشرف يردعه!. يجمد في مكانه برهة ما يلبث أن يستجمع قواه بعدها ليذّكرها أنه قد أحضر المال وملأ القصوع بالطعام ودعى الحشود، فيلومها قائلاً: “فماذا بعد هذا تريدين؟ ولم تعرّضين بمروءتي وشرفي وأنا السيد الكريم؟”. فتهزأ به بدورها وتقول: “أي سيد؟ وأي كريم؟” وتُنكر عليه تفرّغه للنساء، بينما عبس وذبيان تقتتلان حتى يوشك أن يفني بعضهم بعضا، فتأمره أن يسعى للصلح ودعوة القوم بالكف عن هذا السفه “ويومئذ أنت السيد الكريم”. يعدّ الحارث العدّة من حينها، ويتفق وهرم بن سنان الذي أقسم أن يدفع من ماله ديات القتلى من الطرفين إن توقفت هذه الحرب المجنونة، ويبدئان بالسعي نحو الصلح حتى يتم، وتضع الحرب أوزارها! وقد كان خارجة متتبعاً حال سيده الحارث ويسأله في كل موقف “لعلك بنيت بأهلك يا حارث؟”. وقد كان يجيب الحارث عن كل موقف اتخذته بهيسة عندما علم به، قائلاً: “إني لأرى في هذه الفتاة همة وعقلا”. وبعد تلك الحرب الطاحنة التي دارت رحاها في القرن السادس الميلادي على شبه جزيرة العرب “قدّر للحارث بن عوف وهرم بن سنان أن يصلحا بين عبس وذبيان، ويدفعا ديات القتلى من القبيلتين ثلاثة آلاف بعير، ويحسما الشر، ويحقنا الدماء. وكان ذلك كله بفضل امرأة “. غير أن المشهد الأخير يصف صاحبة الفضل حين ترد الفضل “ولما دخل الحارث بن عوف على عروسه بهيسة يبشرها بالنبأ، فتحت له ذراعيها تعانقه، وقالت: أهلا بالسيد في العرب! اليوم قمت بحقي، لا يوم نحرت الجزور والغنم وملأت بطونا في عرس. وتسامع الناس بما كان من حديث هذه المرأة في دفع البلاء وحقن الدماء، فقال أحدهم: يا للمرأة إذا شاءت! وقال ثان: على أن تشاء الخير! فقال ثالث: ولكنها لا تشاء إلا الخير ! لن تشاء تدمير الحياة ما دامت أمّاً .. تتجدد بها الحياة” ….. ولهذا الثالث أقول كما تقول العرب: إنك رجل والرجال قليل.
ختاماً، إنهم العرب .. الذين عندما أهدى المؤلف كتابه قال فيهم: “إلى الشعب الذي أحببته، وفي أحيان كرهته كما يكره الإنسان نفسه .. كرهاً مشتقاً من أعمق الحب”.
…….. وإنهم كما وجدهم، جديرين بالحب رغم المكاره!.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (65) في قائمة ضمت (85) كتاب قرأتهم عام 2019 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها، رغم أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (80) كتاب فقط .. وهو آخر كتاب اقرأه في شهر أكتوبر من بين خمسة كتب .. وقد حصلت عليه ضمن مجموعة أخرى من الكتب من إحدى المكتبات العربية في مدينة لندن، عندما كنت أستكمل دراستي هناك .. وقد أخذني الحنين وأنا بين الكتب الأكاديمية الجافة إلى الكتب التي لا زلت أعرفها وتعرفني!.
تسلسل الكتاب على المدونة: 176
التعليقات