تتفق الأصوليتان المسيحية والإسلامية على العقل، فتعطّله لصالح موروثات مقدسة هي ليست بالضرورة كذلك!. وفي حين يشهد العالم المعاصر سطوة الحضارة الأوروبية التي تقوم على أساس من العقل مطلق، في إعلان صريح نحو تغليب العقلية الإغريقية على الشرقية، يسبر الباحث أغوار الماضي ليتحقق من مكانة الفلسفة في الديانتين، وأثرهما في مسألة التمدن والتخلّف الحالية، وما إذا كانت المسيحية هي بالفعل الحاضنة لها بعد أن ردمها الإسلام!.
تعرض صفحة المحتويات أربعة محاور، عليها يقيس الباحث ما حلّ بالفلسفة ضمن العقيدتين، وهي:
- المركزية الأوروبية والصراع على تاريخ العقل
- عذابات الفلسفة في المسيحية الأولى
- الفلسفة في المدينة الإسلامية: من المواطنة إلى المنفى
- الفلسفة وجدلية التقدم والتأخر
ومن الكتاب الذي يحصد أربع نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، أسرد شيء مما علق في ذاكرتي منه بعد القراءة في الأسطر التالية، وباقتباس في نص حائر (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- في (عذابات الفلسفة في المسيحية الأولى)، تظهر المسيحية وقد شهدت تطوراً على صعيدين: الأول في تحولها من مسيحية حواريين ومسيحية مبشرين إلى مسيحية قساوسة، تصبح الكنيسة بموجبها ذات سلطة دينية يعتني فيها الأساقفة بقانون الإيمان أكثر من الإيمان نفسه. وبما أنهم “أهل عمل أكثر منهم أصحاب نظر”، فقد كان تركيزهم في المقام الأول منصبّ على الإجماع لا الاجتهاد، وذلك بأنهم القيّمون على العقيدة وتفسيراتها وتوجيه المجتمع المؤمن، ووساطتهم نحو الكتاب المقدس. أما الثاني، فيظهر في انتقال المسيحية من “ديانة مضطهدة” إلى “ديانة دولة”، أو حسب تعبير الباحث “من طور مكي إلى طور مدني”، حيث تتقاطع هذه النقلة في المجتمع المسيحي مع المجتمع المسلم عندما التقى الدين بالسلطة، وصار لزاماً تغليب عقيدة قويمة على كافة الهرطقات .. أو ما يُسمى بـ (الفرقة الناجية).
وفي هذا المحور، يقول الباحث عن إرضاخ السياسة للدين: “وتدخّل سلطة الدولة هو بمثابة تأسيس أو تكريس للعنف في محراب اللاهوت .. والعنف يحسم دوماً النقاش بغير قوة النقاش”.
- وفي (الفلسفة في المدينة الإسلامية)، يسلّط الباحث الضوء على الموروث الإسلامي لا سيما من خلال المحدّثين الذي كان لهم الدور الفاعل في تضخّم دائرة الحديث النبوي “أو الكذب على النبي”، بواسطة خلف عن سلف ومن قرن بعد قرن، ما فتح الباب على مصراعيه لتمرير الأحاديث الضعيفة والمكذوبة والموضوعة وأحاديث الآحاد. ونتيجة لهذا التضخم، فقد تم ضرب نوع من السياج الأصم حول العقل أمام مستجدات الحياة التي لا تثبت على حال، وقصره على اقتفاء الأثر من النقول، تجنباً للاستحداث في الدين، حيث ليست المحدثة سوى بدعة التي هي ضلالة والتي هي في النار!. عليه، تم تجريد العقل من طبيعته في التفكّر والمبادرة نحو أي عَرَض، حيث روي عن الفقيه سفيان الثوري قوله: “ينبغي للرجل ألا يحك رأسه إلا بأثر”. ويتعرّض الباحث هنا إلى ما عصف بالمسلمين من سجال في إسباغ كل فرقة صفة البدعة على الفرق الأخرى، باعتبار أنها (الفرقة الناجية) ضمن اثنتين وسبعين فرقة .. كلها في النار.
وفي هذا المحور، يشير الباحث إلى اختلاف علماء الإسلام الأوائل حول الفلسفة، فيقول: “وعلى الرغم من الضربة القاصمة التي يقال إن الغزالي سددها إلى الفلسفة، فقد ظل ابن رشد في أقصى المغرب يعلن -وإن ضمن دائرة ضيقة من أهل النخبة- أن «الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة .. وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة». مثلما ظل فخر الدين الرازي، في أقصى المشرق، مصمماً على الجمع بين الفلسفة وعلم الكلام – منهجياً لا عقدياً ـ من خلال ما أسماه ابن خلدون «طريقة المتأخرين»”.
ومن الكتب التي تطرّق إليها الكاتب في مبحثه وأثارت فضولي نحو اقتناءها، هي: حياة أبي حنيفة، لمؤلفه: سيد عفيفي / الهرطقات، لمؤلفه: يوحنا الدمشقي / النساء الفيلسوفات في العصور القديمة الإغريقية الرومانية، لمؤلفته: ريجين بيترا / المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي، ومؤلفه: الباحث.
وللباحث على مكتبتي بالإضافة إلى هذا الكتاب ثلاثة، هي: مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة / نقد نقد العقل العربي: اشكاليات العقل العربي / شرق وغرب رجولة وأنوثة: دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية.
أخيراً، إنه كتاب بالإمكان تصنيفه ضمن مقارنة الأديان .. يستحق القراءة، ويستحق ترجمته للغات الأجنبية.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (61) في قائمة احتوت على (105) كتاب قرأتهم عام 2020 تتضمن تسعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وهو تاسع كتاب اقرؤه في شهر يوليو من بين اثنا عشرة كتاب .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية في نفس العام ضمن (90) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!.
لقد كان 2020 عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
وفي هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة .. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (يوليو)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“لا يزال الوقت حافلاً بالقراءة وإعداد مراجعات الكتب المقروءة .. ولا يزال الحجر الصحي مستمراً“.
ومن فعاليات الشهر كذلك: كنت قد استغرقت في القراءة بشكل مهووس خلال النصف الأول من هذا العام دون أي فاصل يُذكر، رغم الوقت الذي استقطعه عادة بعد قراءة كل كتاب من أجل تدوين مراجعة عنه! ما حدث في تلك الفترة هو تراكم الكتب التي أنهيت قراءتها من غير تدوين، حتى قررت على مضض بتعطيل القراءة لصالح التدوين .. وأقول “على مضض” لأن القراءة المسترسلة من غير انقطاع بالنسبة لي هي أشبه بالحلم الجميل الذي لا أودّ أن أستفيق منه، لكنني تمكّنت من تخصيص وقتاً جيداً في نهاية هذا الشهر لتأدية عمل الأمس الذي أجلّته للغد.
تسلسل الكتاب على المدونة: 240
التعليقات