كتاب رغم مادته العلمية، فقد استشهد بواقع إنساني ما جعله فاجع ومؤلم وذو شجن قاسٍ! قد يأتي القدر بالحوادث التي تراها أعين الناس المجردة كجرائم قتل أو اغتصاب أو انتحار أو غرق أو حرق أو حمل سفاح أو موت طبيعي، حتى يأتي الطب الشرعي ليقلب الآية ويُثبت العكس .. فهنا، كما يقول المؤلف وهو طبيب شرعي “نطلّ من خلال نافذة الطبيب الشرعي على عالم الإجرام، ولا دهشة في هذا، إنما الدهشة تأتي أولاً حينما نغوص معاً في أعماق المجرم نسبر أغواره ونرصد فيه لحظة اليقظة والتوبة، لنكتشف أن خيراً ما زال ينبض مع نبض قلبه .. وإنما الدهشة تأتي ثانياً حينما نغوص معاً في أعماقنا نحن البشر نرصد فينا لحظات الغفلة والسقوط، لنكتشف أن شراً ما زال يجري مع دمائنا وفي عروقنا حتى مع الأبرار منا (إلا من عصم ربي)”.
أما عن الطبيب الشرعي محور الكتاب، فهو زميل ذلك الطبيب الذي نرتاد إليه في المستشفى .. وفي حين أن الأخير يتعامل مع البشر وهم أحياء، يتعامل الأول معهم وهم أموات! والمؤلف خير من يعرّف به، فهو: “طبيب تخرج في كلية الطب، لكنه غير مصرّح له بمزاولة مهنة الطب! لأنه ببساطة طبيب قاض يعمل في وزارة العدل”.
يغفل الكثير منا عن الدور الحقيقي للطبيب الشرعي، إذ يعتقد جلّنا بأن دوره يقتصر على فحص جثة المتوفي أو تشريحها في حال حامت شكوك حول وقوع جناية ما في حقه، إلا أن دوره في واقع الأمر هو أوسع من هذا بكثير! إذ يتشعب دور الطبيب الشرعي إلى البت في كثير من القضايا، مثل فحص أداة الجريمة، حالات الاغتصاب، الإفراج الصحي، الأهلية العقلية، إثبات البنوة، العجز الجنسي، حالات التعذيب …..، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
يعرض الفهرس أربع وعشرين موضوعاً حرجاً متضمناً مقدمة تعريفية مؤثرة، استحق بها الكتاب ثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي .. من خلالها، يعرض المؤلف عدد من الحالات التي عاينها خلال فترة عمله. وعلى الرغم من محدودية الحالات المذكورة، إلا أنها كفيلة بأن تستحضر قدر كبير من الألم والبؤس والعجب والدهشة لما ما قد تؤول إليه النفس البشرية من تردي ووحشية وشيطنة! فكيف لأم أن تشترك مع عشيقها في قتل طفلها بعد ولادته بغرز دبوس في رأسه؟ وكيف لأب أن يقيد رجلين ويدين طفله ويرميه في الصرف الصحي بعد تورطه في قتله؟
وبعيداً عن الحق الذي لا يضيع بين يدي الخالق، والقوانين المرعية التي سنّتها البشرية، فإنه لا يسلم البر والفاجر من لحظات الغفلة والسقوط، ويأتي المجتمع ليساوي بينهم في العقاب دون مراعاة للتصنيف، بل ويقسو في عقابه دون مراعاة لضعف النفس البشرية.
ومن هول الحوادث ما يكشف عن الوحش القابع في داخل الإنسان، يتحيّن لحظة ضعفه حتى ينقض لا يلوي على شيء .. أسرد حادثتين في نص دموي كما أوردهما المؤلف (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) إضافة إلى ما سبق من الاقتباسات:
- يقول في حادثة الطفلة ذات الخمسة أعوام: “من أبشع الجرائم التي باشرتها جثة فتاة صغيرة مجهولة الاسم والهوية عثر عليها مضرجة في دمائها بأحد القرافات. انتقلت لفحص وتشريح الجثة، وجدتها لفتاة تبلغ من العمر خمس سنوات، كما وجدت الجمجمة بها كسور وتكاد تكون مهشمة، وبفحص غشاء البكارة وجدنا تمزقاً حديثاً، كما وجدنا سحجات ظفرية بمنطقة الفخذين .. وبمزيد من الفحص عثرت على عدة شعرات بأظافرها قمت بالتحفظ عليها، كما أخذت مسحة مهبلية لفحصها. وقمت بمعاينة مكان الحادث، ووجدت دماء متناثرة في مواقع مختلفة من القرافة على الأرض والجدران، وبالبحث عثرت على حجر متوسط الحجم عليه تلونات دموية فقمت بالتحفظ عليه كذلك. والواقع أن كل هذه المشاهدات تشير إلى أن الفتاة الصغيرة قد قاومت العربيد بكل ما تملك من قوة، وما السحجات الظفرية بالفخذين والشعرات المعلقة بأصابعها الرقيقة إلا محاولات مستميتة منها للحفاظ على شرفها! ولا شك أن قواها قد خارت أمام هذا الذئب فأوقع بها ونال ما تمنى، حتى إذا قضى حاجته الشيطانية تهاوت قواه بفعل السكرة، والمسكينة تحته تتحين الفرصة حتى تمكنت من الانفلات منه، وانتفض الكلب المسعور خوفاً من اكتشاف أمره فجرى ورائها يلاحقها ويحطم رأسها بحجر .. المسكينة تجرى وهو يجرى من وراءها، يتهشم رأسها فلا يرحمها، تلفظ أنفاسها فلا ينفطر قلبه، تتناثر دماؤها على جدران القرافة فلا يزرف دمعه”. يقول المؤلف بعد سرد خواطره التي تنبع من قلب اعتصره الألم لما عاين وخبر: “وتم ضبط عدد من المشتبه فيهم لأقوم بأخذ خصلة من شعر كل واحد لفحصها ومقارنتها ميكروسكوبياً بالشعرات التي عثرت عليها بأظافر الفتاة. وبعد طول بحث وفحص تم تحديد المتهم الذي ارتكب هذه الجريمة البشعة”.
- ويقول في حادثة الشاب العاشق: “وكنا قد توجهنا لفحص وتشريح جثة رجل مصاب بأعيرة نارية، وما أن نزلت من السيارة، وكان معي ضابط المباحث حتى فوجئنا بأهالي القتيل يصوبون بنادقهم في وجوهنا ويصيحون «أخونا ما يتشرحش واصل». تمالكت نفسي وتوجهت لأتحدث معهم، وكان من بينهم شاب يتحدث بلغة تقترب من لغة المنطق .. صحيح أنه منطق مغلوط لكنه منطق والسلام! قلت له: إنت مش عايز نقوم بعملنا ليه؟ قال: وإنت عايز تشرح أخوية ليه؟ قلت: مش أنا اللي عايز، ده القانون هو اللي عايز. والقانون عايز ليه؟ علشان نجيب لكم حقوقكم. وإيه اللي حتجيبوه؟ إحنا عارفين القاتل. قلت؛ أنا مش بس مهمتي المساعدة في البحث عن القاتل، ولكن مهمتي تجميع الأدلة الفنية وتقديمها للمحكمة، وبالتالي القاتل يأخذ أشد عقوبة. واستمر الحوار إلى أن اقتنع بالتشريح بعد أن أفهمته أن التشريح ليس تمثيلاً بالجثة كما كان يعتقد وأنه إجراء بسيط، والضرورات تبيح المحظورات. وهكذا أدينا مهمتنا بعد أن جف الدم في عروقنا. وتحركت المباحث من جديد في ضوء ما خلصنا إليه من رأي في تقرير الطب الشرعي، وتبين في النهاية أن القاتل هو فرد واحد فعلاً، وأنه لا علاقة له بالثأر ولا بالعائلة الأخرى، بل القاتل من نفس عائلة القتيل، بل من نفس أسرته، بل هو والده”. ثم يكشف المؤلف خبايا الجريمة البشعة في أهون ما يكون التبرير وأخسّ ما تتردى إليه النفس، قائلاً: “وكان الابن القتيل قد رغب في الزواج من إحدى الفتيات، ولكن أباه رفض هذا الزواج، ونشبت مشاجرة بين الوالد وابنه خرج بعدها الولد من البيت ثائراً مهدداً بالزواج من فتاته غصباً عن والده. ويبدو أن الولد كـان يحب الجـو الشاعري فذهب إلى الغيط حيث جلس القرفصاء واضعاً يده على صدغه حزينا متأملاً، والوالد من خلفه يلعن ابنه، والدماء تغلى في عروقه .. عروقه النبيلة التي يأبى أن تتلوث بعروق من لا نسب له ولا طين، لتتلوث في النهاية بدماء ابنه الوحيد! الوالد خلفه والسلاح في يده والشيطان يربت على كتفه والغشاوة تعمى عينيه ويضغط على التنك لتنطلق الرصاصة .. ويقتل الوالد ابنه”.
جرت العادة أن تطغى المهنة على صاحبها! نعم، يبدو ذلك جلياً في عمق الشعور الإنساني للمؤلف الذي تبدّى من خلال تأملاته في النفس البشرية وعجائب صنيع الله فيها، ومن خلال استشهاده بالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تثري كل حالة مروية بين دفتي الكتاب.
بينما يقف القارئ إجلالاً للمؤلف د. عماد الديب وللشرفاء من زملائه في هذه المهنة التي يلزمها التجرد من المشاعر الإنسانية من أجل خدمة الإنسانية .. يقف مذهولاً من هول تلك النفس العجيبة التي بين جنبينا، ويردد مسبحاً بعجيب خلق الله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)!.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (17) في قائمة ضمت (52) كتاب قرأتهم عام 2018 تتضمن كتابين لم أتم قراءتهما! وهو أول كتاب اقرأه في شهر ابريل من بين ثلاثة كتب. وقد كان ضمن مكتبة العائلة العريقة التي استحوذتُ عليها كاملة، بما تضم من كتب قديمة قد لا تتوفر حالياً في المكتبات.
من فعاليات الشهر: مضيت في رحلة إلى البرتغال لمدة أسبوعين. كانت ممتعة للغاية، طفت فيها أرجاء البلد وشاهدت ما تبقى من آثار العرب الأندلسيين، من خلال برنامج سياحي مكثّف ضم الكثير من سيّاح أوروبيين وأمريكيين. وبينما كان معظمهم يستمتع بمرحلة ما بعد التقاعد، كنت (الصغيرة) بينهم التي حَظيتْ بدلال الجميع. أسترجع كذلك أنني حضرت في الشهر السابق برنامج لتعلّم مبادئ اللغة البرتغالية، وقد كان لطيفاً أن أتبادل مع البرتغاليين كلمات مما تعلّمت.
تسلسل الكتاب على المدونة: 50
التعليقات