الكتاب
مذكرات طبيب شاب
المؤلف
الكتاب باللغة الأصلية
Записки юного врача - By: Михаил Афанасьевич Булгаков
المترجم/المحقق
ثائر زين الدين وآخران
دار النشر
دار العوام للنشر والتوزيع
الطبعة
(3) 2015
عدد الصفحات
146
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
12/21/2017
التصنيف
الموضوع
الطبيب الإنسان والأديب الإنسان
درجة التقييم

مذكرات طبيب شاب

سيرة ذاتية لها أن توصف بـ (الإنسانية) قبل أي وصف إبداعي آخر! إنها سيرة شاب روسي عايش سلسلة من كفاح مضطرب في بداية حياته المهنية كطبيب مستجد، وذلك حينما تم تعيينه فور تخرجه في كلية الطب مديراً لمستشفى في قرية نائية تقع بأقصى شمال روسيا، تعصف بها الثلوج والأنواء ويكتنف أهلها الفقر والجهل والخرافة. وفي مثل هذه الظروف القاسية، يجد الطبيب الشاب عزائه في الموسوعات الطبية الضخمة التي تركها خلفه الطبيب السابق ذو الخبرة الأطول باعاً والصيت الحسن، وفي كتاب الأدوية الصغير الذي لم يكن يفارق مكتبه، وفي الكثير من المطالعة والقراءة. ففي سيرته، يصف مشاعره بكل دقة وصدق وهي تتراوح بين ضيق الوحدة وسطوة الهلع، متوجساً من أسوأ ما يمكن توقعه من حالات مرضية مستعصية، منفرداً، خالياً من أي خبرة ومساعدة. لم يسعفه في هذا الوضع الحرج تخرجه في كلية الطب بتقدير امتياز، وقد حصل حسب سلم الدرجات الأكاديمية الروسية على خمسة عشر خمسة، وهو الذي لم يكن قد مرّ عليه سوى ستين يوماً فقط من تعيينه. لقد ضرب مثلاً في تفانيه حين تذكّر بعد شهر من تولي مهام عمله الأول آخر مرة كان قد استحم فيها، وعندما كان يواصل نهاره بليله في معاينة المرضى الذين كان يتجاوز عددهم المائة في بعض الأيام، فينام منهكاً على أريكته في نهاية اليوم المضني.

إنه ميخائيل بولغاكوف (1889 : 1940 Mikhail Bulgakov)، المولود في مدينة (كييف) السوفيتية لأبوين أكاديميين تخصصا في علوم الدين. لقد عُرف بولغاكوف كأديب أكثر مما عُرف كطبيب، حيث انهمك بعد فترة وجيزة من عمله المهني في تأليف الأعمال الأدبية، لا سيما تلك التي تأخذ طابع النقد السياسي، مضحياً فيما بعد بمهنة الطب إلى الأبد. وقد صُنفت معظم أعماله ضمن روائع الأدب العالمي، مثل مسرحية (أيام آل توربين) التي حرص ستالين -رئيس الاتحاد السوفيتي في عشرينيات القرن الماضي- على حضورها، وأعمال أخرى أثارت جدلاً وتعرضت للحظر، كرواية (المعلم ومارغريتا) التي لم تُنشر إلا بعد وفاته بما يقارب الثلاثة عقود، وبواسطة أرملته، حيث قام بحرقها ثم أعاد كتابتها مجدداً بعد حين. لم يعمّر طويلاً، حيث توفى شاباً عن قصور كلوي، وقد أدمن فترة من حياته مادة المورفين، متأثراً بها كمادة علاجية كان يُسعف بها مرضاه، وقد ألفّ عن تلك الفترة العويصة من حياته رواية تحمل اسم هذه المادة.

يسرد الطبيب الشاب في سيرته (Записки юного врача – By: Михаил Афанасьевич Булгаков) سبعة قصص رئيسية منتقاة عايشها -أذكرها تالياً- يمتزج فيها الألم بالسخرية، ويجد فيها نفسه قد باشر عمليات فتق وبتر وخلع أسنان وتجبير كسور وعلاج خرّاجات وولادات متعسرة وإجهاضات و و و…، حالفه النجاح في بعضها، وعاد من بعضها إلى حجرته ينهشه ضميره بعد فشله فيها. لم تكن فقط حكايات يسردها، إنما بث فيها من المشاعر والتأملات والتساؤلات حول ما يعتور النفس البشرية من ألم ومرض وضعف وجهل، وبين ما قُدّر له من نصيب في النجاح والفشل، الزهو والقلق، الدهشة والحيرة، الكبرياء والوحدة …، في جو عام عصفت فيه الرهبة بالفكاهة .. بها جميعاً، تحظى السيرة برصيد أنجمي الخماسي كاملاً.

  1. المنشفة ذات الديك
  2. الحنجرة المعدنية
  3. الولادة
  4. العاصفة
  5. طفح كما النجوم
  6. ظلام مصري
  7. العين المفقودة

لا أقرأ السير الذاتية كثيراً، وإن فعلت فقلّما أتحدث عنها! غير أني أرجو من الأسطر القادمة أن تعكس ما علق في روحي من هذه السيرة بعد قراءتها، والتي حملت شيء من الاقتباسات بلون الروح (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:

  • يعقد الطبيب الشاب في عنقه قسماً بأن يتصرف “برزانة” في مستشفى نيكولسكاي الواقع في مدينة موريفسكايا وقد تسلّم إدارته للتو، إذ أن ملامحه الشابة جداً قد نغصّت عليه مع لحظاته الأولى فيها، فأصبح يبادر دائماً بتعريف نفسه بـ “الدكتور فلان” وأن يجيب “بعبوس” على أي تعليق خاص بهيئته كطالب لا كطبيب، وأن يتجنب العدو كشاب طبيعي في الثالثة والعشرين من عمره، وأن يتحدث “باقتضاب واتزان”، حتى فكرّ بارتداء النظارات. يقول في هذا: “ولكنني لست بحاجة للنظارات فعيناي سليمتان، لم تعكر صفوهما تجارب الحياة بعد. وحين أيقنت أنني حتى بمساعدة النظارات لن أستطيع حماية نفسي من النظرات المتحببة المتساهلة، قررت أن ألتزم سلوكاً خاصاً يستدعي الاحترام”. غير أن كل تلك الحيل باءت بالفشل. فمثلاً، تبادره القابلة العجوز بدهشة لصغر سنه وتقول: “يا دكتور إنك شاب .. شاب جداً. إنه لأمر مدهش .. إنك لأشبه بطالب”. وفي الوقت الذي يجيبها بوقار وهو ينفث من بين أسنانه بـ “إحم .. لا .. أنا .. أقصد .. نعم شاب”، يجيبها في سرّه قائلاً: “تفو .. أنت شيطانة .. قلت لنفسي .. كأنهم اتفقوا ضدي”.
  • ثم يعترف في سرّه مرة أخرى وهو في جولة أولية حول المستشفى المزوّد بشكل جيد بالمعدات الطبية، جهله باستخدامها، لا لأنه لم يتسنَ له العمل عليها من قبل، بل لأنه لم يرها قط. يحلّ مساء اليوم الأول وهو يشعر بشيء من الألفة، إلا أنه كان يردد بداخله: “لست مذنباً على الإطلاق”، فقد حذّر من رشّحه في مدينة كييف لهذا المنصب، وطلب أن يكون طبيباً مساعداً بدلاً عنه، غير أنه قوبل بابتسامة وبكلمة: “ستتعود”. ثم طفق يستعرض في وجل الحالات المرضية التي قد يستقبلها وقلة حيلته أمامها، ويقول: “يا لي من إنسان ساذج! كان عليّ ألا أجيء إلى هذه المنطقة“. يُخيّل له حالة فتق جيء له بها في اليوم التالي، فيسمع الجن تغني له أغنية رعب وأمر بإجراء عملية فورية، “ساعتها استسلمت وأوشكت على البكاء وصليت للظلمة خلف النافذة”. تراود حالات الفتق هذه الطبيب الشاب بأشباحها كثيراً، فيعترف قائلاً: “كم مرة انساب العرق البارد ببطء على ظهري عندما أفكر مجرد التفكير بالفتق”.
  • يقول هذا عن نفسه قبل أول قصة يسردها (المنشفة ذات الديك)، حين ارتمى والد الطفلة التي سقطت في آلة هرس الكتان عند قدميه، متوسلاً بإنقاذها، فيضيع ويدمدم ويسحب الأب من كمّه صائحاً سائلاً: “ماذا تفعل”؟ لكنه يندب حظه ويسأل نفسه: “لماذا؟ لماذا أعاقب؟ أية خطيئة ارتكبت؟”. غير أنه ما يلبث أن يجد نفسه في غرفة العمليات يشق الجلد وينتظر انسياب الدم، ويقول: “فكّرت .. وكذئب، نظرت من زاوية عيني إلى كومة الملاقط الطبية، وحززت قطعة كبيرة من اللحم النسائي” ولم تقطر نقطة دم واحدة، وبأحد الملاقط أغلق الشريان. كان قبل هذا يقف مستغرباً أمام نصف جثة حية، وقد “رجوت القدر لحظتها أن تموت خلال نصف الساعة القادمة، ولتمت في العنبر بعد ان أنهي العملية”. وبينما كان يفصل عظمة الفخذ عن جسد الطفلة، يلوح له سرّ من أسرار الحياة مستفهماً: “لماذا لا تموت؟ غريب كيف يتعلق الإنسان بالحياة”؟. تتكلل العملية بالنجاح وينظر إليه مساعدوه بعين الدهشة والاحترام، ويؤكدون بأنه لا بد وقد أجرى عمليات بتر كثيرة من ذي قبل. يقول في هذا الموقف: “إحم، أنا .. أجريت هذه العملية مرتين من قبل. لماذا كذبت؟ لا أدري إلى الآن”. غير أن اليأس يأخذ منه مأخذاً حتى بعد إتمام العملية بنجاح، فيأمر مساعديه قبل ذهابه “بنصف صوت” قائلاً: “عندما تموت أرسلوا في طلبي”. مع هذا، وبعد مرور شهرين ونصف، تدخل إلى عيادته الفتاة فائقة الجمال، بتنورة حمراء فضفاضة، وبرجل واحدة .. وعكّاز، مع والدها الأربعيني، ومن غير والدتها التي كانت متوفاة منذ صغرها .. وعندما يطلب منها والدها أن تقبّل يده بعد أن كتب لها عنواناً في موسكو لصناعة ساق لها، يرتبك ويصف الموقف قائلاً: “وحين همّت بذلك ارتبكت وقبّلت أنفها لما أردت أن أقبّلها على ثغرها” .. ثم تتكأ على عكازها وتهديه “منشفة طويلة بيضاء كالثلج طرز عليها بشكل غير متقن ديك أحمر”. لقد لاحظها حين كانت نزيلة في المستشفى تحيكها ثم تخفيها تحت مخدتها، فتعيش المنشفة معه حتى تبلى بمرور السنين وتتلاشى مع ذكرياته.
  • يسرح الطبيب في قصة (الحنجرة المعدنية) مع خواطره، عندما غدى وحيداً في نهاية ذلك اليوم، يطلّ من نافذة حجرته المظلمة في المساء الطويل الوحشة، تحت ضوء أباجورته الأزرق الذي يرسم له أشباحاً تنقله إلى مدينته التي تبعد عنه أربعين فرسخاً. كم تاق إلى العمل هناك ومن حوله زملائه يلجأ إليهم عند الحاجة، وحيث لا تنقطع الكهرباء .. إن مجرد التفكير في الهروب ليس سوى “جبناً وتخاذلاً”. ثم يعود لطمأنة نفسه بأن الوضع هنا ليس على قدر كبير من السوء “بل إن خصوصية هذا العمل كانت الدافع لانتسابي إلى كلية الطب” كما برر. وفي هذه القصة التي تبدو كالمعجزة وقد كللها بنجاح أيضاً، رغم جنون الأم وثرثرة الجدة حتى كاد أن يفتك بها مرّات متمتماً: “كم هو رائع لو أن أمثال هذه العجوز لم يخلقوا بالمرة على وجه الأرض”، يصف مريضته الطفلة وصفاً حريرياً بعد أن فكّت الأم الصرّة التي حوتها، قائلاً: “شاهدت ابنة أعوام ثلاثة .. تأملتها ونسيت للحظات جراحتي العامة .. نسيت وحشتي ووحدتي في هذه الأصقاع ومسؤولياتي الجامعية التي يجب أن تنقذني الآن .. تناسيت بإصرار كل شيء لشدة جمال هذه الصغيرة .. بماذا سأشبهها؟ وأمثالها لا نراهم إلا صوراً مرسومة على علب السكاكر .. شعر جعدته الطبيعة لينساب خواتم عريضة بلون الشعير اليانع .. عينان زرقاوان جوزيتان وخدان كخدي دمية. وباختصار هكذا فقط ترسم الملائكة .. فقط كان ثمة كدر غريب عشش في قعر عينيها، وأنا بدوري فهمت أن هذا الكدر إنما هو رعب من لا يجد هواء يتنفسّه! ستموت خلال ساعة .. قدّرت الأمر في نفسي بيقين، وانقبض قلبي بأسى”. وفي حين كانت الطفلة تتنفس بفحيح أفعى، وبقايا بلعوم، وحنجرة “تغلي وتخرّ”، وقبل أن يقرر شقّ بلعومها “وبتأثير خافض اللسان عطست، فتناثر الرذاذ على وجهي وعيني. والغريب أنني لم أخف أن تنتقل الدفتريا بالعدوى إلى عيني، لشدة انفعالي بما يتوجب عليّ أن أفعله”. ثم يُسهب عن عواطفه التي عصفت به، خلافاً لما كان يبدو عليه من ثبات في الظاهر، فيأسى لنفسه وهو يمسك الجرح أثناء العملية بالكلاليب: “تندّى جبيني عرقاً وانتابتني قشعريرة .. آه .. كم أنا آسف على اختياري كلية الطب”. وحين كان يبحث عن الرغام وسط البلعوم الصغير المفتوح، والجرح الذي لم يجد ما يشبهه في الكتب التي درسها، يتملكه اليأس ويقول لحظتها: “إنها النهاية .. قلت لنفسي، لماذا فعلت هذا؟ كان بإمكاني ألا أقترح العملية، وأترك ليدكا الصغيرة تموت بهدوء في العنبر، أما الآن فإنها ستموت برقبة ممزقة، ولن يكون بإمكاني بأي حال أن أثبت لهم إنها كانت ستموت حتماً بهذه الطريقة أو بغيرها، وإنني لست المتسبب في موتها”. وحين ثقب -وهو مرتبكاً- بالمشرط الحلقات الرغامية واخترق الحنجرة التي برزت من مكانها، فمزّقها بدل إعادتها إلى وضعها، تفغر القابلتين فاهيهما ويقع المساعد مغشيّاً عليه، وتغرق الطفلة في الزرقة .. هنا يقول في استسلام: “كل شيء ضدي .. القدر .. لقد ذبحت ليدكا دون شك. وصممت: عندما أصل البيت سأطلق على نفسي الرصاص”. تترصدّ الأم بباب غرفة العمليات، حتى إذا ما لمحت الطبيب ومساعديه يخرجون، تزأر فيهما عمّا حلّ بابنتها، “وفي عينيها نظرة وحش ضار”. يصف الطبيب تلك اللحظة قائلاً: عندما وصلني صوتها، أدركت ما الذي كان سيحدث لو أن ليدكا ماتت في غرفة العمليات”. بعد تعافي المريضة الصغيرة، ذاع صيت الطبيب الشاب وتنامت عيادته، حتى عاين في يوم واحد من التاسعة صباحاً حتى الثامنة مساءً مائة وعشرة مريضاً. لقد تناقل الأهالي معجزة الطبيب بإشاعة زرعه قصبة معدنية في حلق الطفلة، فكانوا يتهافتون على قريتها لمشاهدتها خصيصاً.
  • وفي نهاية القصة التي تحكي (الولادة) لجنين في “توضّع عرضي”، الوضع الذي تطلّب عملية “تحويل الجنين”، وقد استغرق الطبيب عشرين دقيقة قبل شروعه في العملية منهمكاً أمام المجلد الطبي، تقول له القابلة وأمامهما طست بمياه حمراء: “لقد أجريتم عملية تحويل الجنين بشكل جيد يا دكتور، أنا على يقين من ذلك”. يعقّب الطبيب: “كنت لحظتها أنظف يدي بالفرشاة بنزق، فنظرت إليها بطرف عيني. لعلها تسخر؟ ولكن وجهها كان يحمل معاني الرضا والفخر دون مواربة. طفح قلبي بالسعادة، ورحت أنظر إلى فوضى من الدم والبياض من حولي .. إلى الطست ذي المياه الحمراء وكنت أحس بالانتصار”. يعود إلى حجرته ليلاً وقد كان عقله لا يزال مفتوحاً أمام صفحة “مخاطر عملية تحويل الجنين” وقد ساد الهدوء المكان تحت ضوء المصباح الساطع، وخواطر راودته عن معنى “المعرفة الحقيقية”، يقول فيها: “التجربة الكبيرة يمكن الحصول عليها في القرية -فكرت وأنا أغفو- ولكن يجب فقط القراءة .. القراءة كثيراً .. والقراءة”.
  • أما في قصة (العاصفة)، فتموت العروس يوم عرسها بعد أن سقطت من فوق جواد يمتطيه عريسها، وقد تبدّل فرحه العارم في لحظة إلى انهيار تام. يصل الطبيب الشاب إلى القرية التي تبعد عن المستشفى ما يقارب الاثنى عشر فرسخاً، ويجد زميله الطبيب الذي كان في انتظاره، غير أن الاثنين لم يتمكنا من منع القدر أن يقول كلمته الأخيرة. يلحّ عليه زميله بالبقاء حتى يحين الصباح ليعود، فالسفر ليلاً يحفّه المخاطر، لكنه يتعذّر بمرضى التيفوئيد الذين هم هناك في انتظاره، في حين كان السبب الحقيقي مختلف تماماً! يقول في ختام القصة: “أعترف أنني لم أبح لأي منهم أن فكرة واحدة استوطنت جوارحي. لا أحتمل البقاء في مكان تجلله المصيبة وأنا أعزل بلا قوة .. بلا نفع، أمام الموت”. ويستكمل خواطره قائلاً: “يا لهذا المصير الفظيع! كم هو بسيط مرعب في آن واحد العيش في هذا العالم”، متأملاً الحزن الذي سيلّف دار العروسين، “مجرد التفكير بهذا محزن! عليّ أن أشفق على نفسي أيضاً .. على هذه الحياة القاسية”.
  • وفي قصة (طفح كما النجوم)، يعاين الطبيب الشاب امرأة يتفق وإياها على نعت زوجها بـ “سافل”، ويسترجع مع حالتها حالة القروي الذي أتاه يوماً وقد غطاه السفلس، فلا عاد لمراجعته، ولا عادته زوجته وأطفاله كما أوصاه، فما علم بما جرى لهم جميعاً، “فكل يوم أسماء جديدة كثيرة وأشياء جديدة .. أشياء فظيعة تضعف بصري وتخطف قوتي وتجعلني من أعماق قلبي ألعن حظي مائة مرة في اليوم”. أما هذه الزوجة العزيزة، فقد ترك لها زوجها قبل وفاته رسالة تخبرها بإصابته “بمرض أحمق .. السفلس”، لكنه لم يرغب حينها بإخبارها، موصياً إياها بمراجعة الطبيب. يقول الطبيب الشاب عن ذلك الزوج، بعد معاينته وحواره معه الذي كان أشبه بالاستجواب: “لم يكن حديثاً، بل حواراً .. حواراً رائعاً. لو سمعني أستاذي في الجامعة لأعطاني علامة عالية في طرائق استجواب المرضى. لقد اكتشفت في نفسي ذخيرة هائلة عن السفلس لم أكن أعلم أنها في حوزتي”. أما عن الزوجة، فيقول: “ناديت القابلة وانفردنا نحن ثلاثتنا في غرفة الفحص النسائي. القابلة تكزّ على أسنانها وتقول: نذل .. نذل، والمرأة ساكنة تنظر إلى الغسق خلف النافذة بعينين مظلمتين. كانت هذه واحدة من أكثر مريضاتي اللواتي اهتممت بهن في حياتي. بحثنا أنا والقابلة بحيث لم نترك في جسدها بقعة واحدة دون معاينة ولم نجد أية علامة مثيرة للشكوك”.
  • يجتمع الطبيب وفريق عمله في سهرة بمناسبة عيد ميلاده وهو بعيداً عن مدينته، فيحلو السمر بينهم في قصة (ظلام مصري)، يبدأه المساعد بقوله: “أدعوكم إلى كأس أخرى .. ( آه .. لا تقسوا علينا بالحكم، فالطبيب على كل حال، والممرض والقابلتان بشر أيضاً .. نحن طيلة الشهر لا نرى أحداً غير مئات المرضى .. نحن نعمل مغمورين في الثلج .. فهل حرام علينا أن نشرب كأسين من الكحول ونصبّر المعدة بقطعة من السمك في يوم ميلاد الطبيب؟) .. نخب صحتك يا دكتور! بإحساس قال الممرض دميان”. ومن بين الحكايات، تقصّ إحدى القابلتين حالة امرأة حامل وُجد لديها في “المسالك الولادية” ما هو أشبه بمسحوق غريب أو قطع قاسية، تبين أنها سكر بعد الفحص! لقد جاءت كـ (مقايضة) للجنين الذي ادعت إحدى المشعوذات لأمه عُسر ولادته، فكان لا بد من إرضاءه.
  • ختاماً، وفي قصة (العين المفقودة)، يستعرض الطبيب في مخيلته ما أنجزه خلال عام. لقد عاين بالضبط خمسة عشر ألف وستمائة وثلاث عشرة حالة، أدخل مائتان منها إلى المستشفى للعلاج المباشر، ومات منها ستة فقط .. في ذلكم المستشفى الريفي المفتقر للخبرات البشرية، وحول أهله الريفيين الفقراء الجهلاء. كذلك، يسترجع محيّاه حين كان حليقاً بمفرق شعر مغرٍ يتمايل إلى الخلف عند تسريحه، أما الآن فبالكاد يحلق وجهه يوماً في الأسبوع بدل ثلاثة، كما أن بشرة خدّيه أصبحا “كالمبرشة، بحيث أنه إذا أزعجني مرفق يدي أثناء العمل، فكم يطيب لي أن أحكّه بهما”. وعن تلك الحالات التي عاينها، يسترجع: حالة الأم التي وضعت طفلها تحت الجسر بجانب أشجار الغابة، وقد وصم الطبيب والد زوجها بـ “المجنون” و “الخنزير”، إذ قالت حين سألها عن سبب وجودها تحت الجسر متعرّقة في آلام مخاضها، وقد هرع إليها والقابلة: “والد زوجي لم يعطني حصاناً. قال لي إن هي إلا خمسة فراسخ وبإمكانك الوصول مشياً .. أنت امرأة معافاة، وليس هناك من سبب لسوق الأحصنة هباء”. أما القابلة فاحتدت قائلة: “إلى أية درجة اسودّت قلوب هؤلاء الناس؟”. ويسترجع كذلك: حالة الأم التي كانت حاملاً بـ “جنين معترض” فتموت الأم ويولد الطفل ميّتاً وقد كسر يده على أية حال أثناء عملية تحويل الجنين! يدخل الطبيب بعدها في دوامة عاتية من تأنيب الضمير، يقول في خضمّها: “هراء .. كل ما فكرت به هراء! لقد كسرت يد مولود كان قد مات، لكن الذي يجب التفكير به ليس اليد، وإنما أمه التي ما زالت حية، هي التي كان علينا إنقاذها”. ثم يسترجع: حالة الجندي الذي خلع بكلّاب، ضرسه بجذوره الطويلة التي التصقت بها قطعة كبيرة من العظم تنصع بياضاً، ولم تكن تشبه أي شكل هندسي عاينه أثناء دراسته، فيدّسه في جيبه ومن ثم في درج مكتبه حتى أنتن. لا تعفيه نفسه اللوامة التي تستجوبه في إحدى جلسات محاكمتها السرية: “وأين الفك السفلي للجندي العائد من الحرب؟ اين ذهبت به؟ أجب أيها الشرير .. يا من تخرجت من الجامعة”.

ورغم ما كان، فهو يقول ختاماً: “وهكذا، عام كامل امتد طويلاً، بدا معمراً، متشعباً، معقداً ومخيفاً، أو أنه مرّ طائراً كالزوبعة، لكني أرى في المرآة آثاره على وجهي. عيناي أصبحتا أكثر جدية وأكثر قلقاً .. فمي أكثر ثقة وأكثر رجولة .. تكونت تجعيدة عامودية على جبيني فوق قصبة أنفي ستبقى لآخر العمر، كما سترافقني وتبقى معي ذكرياتي .. ها أنا ذا أراها في مرآتي تتراكض بجموح الخيل ولا تقف”.

وأقول ختاماً: أنها سيرة تنضح بقيّم إنسانية ازدادت قيمة بصعوبة المواقف التي أفرزتها، تتمثل في الإقدام والجرأة والصدق والتفاني وروح التحدي والإحساس بالمسئولية .. وإنسانية كاتبها الذي لأجله تُرفع القبعة.

 

تم نشر المراجعة في صحيفة المشرق العراقية على جزئين، كما يلي:

الجزء الأول: 7 سبتمبر 2022 – صفحة (10)

الجزء الثاني: 8 سبتمبر 2022 – صفحة (10)

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

من الذاكرة: جاء تسلسل السيرة (33) كما دوّنت ضمن قائمة من كتب قرأتهم عام 2017، وما قرأت غيرها في شهر ديسمبر وقد ختمت بها حصيلة قراءاتي للعام .. غير أن ذاكرتي لا تسعفني، ولا حتى مفكرتي القديمة بما تحويه من ملاحظات، ولا مسودات التدوين في حينها، من تعيين إجمالي عدد الكتب التي قرأتها خلاله بالتحديد! وعلى الرغم من أنني أجد بخط يدي على هامش مفكرة العام عبارة (33 كتاب)، إلا أنني لا أعتقد أنها ملاحظة دقيقة.

لكنني لا زلت أذكر تماماً الأعوام الثلاث التي قضيتها في تحصيل دراساتي العليا في المملكة المتحدة، والأعوام التي تلتها وأنا منهمكة بجد في عملي المهني الذي لا يمتّ بصلة لهواية القراءة لا من قريب ولا من بعيد .. الدراسة التي استحوذت على حياتي حينها، والعمل الذي كان يستنفد القدر الأكبر من وقتي وطاقتي، بحيث لا يتبقى للقراءة في نهاية اليوم سوى القليل من الوقت والتركيز .. ولله الحمد دائماً وأبداً.

والآن، استرجع وأنا أخطّ هذه المراجعة أجواء ديسمبر الباردة حين قرأت السيرة للمرة الأولى أثناء جولتي السياحية في أوروبا، وكأنها تحاكي الصقيع الذي عايشه الطبيب الشاب على طول سيرته! كانت نسخة كندل، والتي أصررت على استبدالها بنسخة ورقية بعد فراغي من قراءتها حيث أعدت قراءتها من جديد .. ولا أعلم، لمَ كنتُ قاطبة الجبين والحاجبين، أتألم كثيراً وأنا أنتقل من صفحة لأخرى؟ لا أخفي أنني أعاني من فوبيا (البالطو الأبيض) … وقد كبرت ونضجت! فهل كانت تلك الفوبيا سبباً كافياً لتفسير ذانك العبوس والألم؟

ومن حُسن الصدف -وأنا لا أؤمن بالصدف- أن التقيت في تلك الرحلة بسيدة روسية مسنّة وزوجها، وقد حدّثتها حين كنا نتناول الإفطار قبل ابتداء البرنامج السياحي عن السيرة! لقد أطرت السيدة الكاتب ومؤلفاته الأخرى التي نصحتني بها، لعمق ملامستها أعماق النفس الإنسانية، باستثناء هذه السيرة التي لم تكن تعرف حتى لحظتها بأن الكاتب الأديب هو طبيب في الأصل، وقد ظنت أن د. تشيكوف و د. بولغاكوف قد التبسا عليّ!. لذا، أصبحت أقتني من مؤلفات الطبيب الشاب كذلك: مورفين / المعلم ومارغريتا / قلب كلب / بيوض القدر / الحرس الأبيض

تسلسل السيرة على المدونة: 76

 

تاريخ النشر: نوفمبر 14, 2021

عدد القراءات:3249 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *