كتاب يتناول عمل الدماغ بلغة علمية صرفة، يقود في خاتمته إلى التفكر في عجائب النفس البشرية التي لا تنتهي، وأسرار الدماغ الأكثر عجباً حين يتم الكشف عنها!
وفي كلمة وجيزة حول تطور الدماغ البشري، تعتقد الباحثة بمخلوق دودي ضئيل لا يتجاوز طوله البوصتان، تمكّن من خلال ما يزيد عن خمسمائة مليون عام من العبور عبر عدد لا يحصى من التكرارات التطورية، ليشكل في نهاية المطاف الدماغ البشري بصورته الحالية، والذي يختلف بطبيعة الحال عن العقل البشري! وفي حين يقرر النصف درس بأن هذا الدماغ لم يتطور لأجل عملية التفكير بل “لإدارة جسد دودة صغيرة بعد أن صار معقداً بالغ التعقيد”، تتصدى الدروس السبع التالية لفضح الأساطير التي تناوشت كيفية عمل الدماغ، وتعمد من ثم إلى شرح العمليات البيولوجية التي تحكم وظائفه الأساسية وتفسر وجود الإنسان على هذا النحو وكيفية تفاعله والناس بعضهم ببعض، والتي تخلص في الخاتمة إلى تصحيح عدد من المفاهيم الخاطئة المتداولة بينهم، لا سيما المتعلقة بالواقع الاجتماعي الذي تم تصميمه بناء على سوء فهم عمل الدماغ، مع عرض مجموعة من الآراء التي قد تساعد في تحسين جودة الحياة ككل .. فالدماغ لا يزال قادراً على تعلم المزيد، وهو الممثل الرئيسي لنقاط قوة الإنسان وضعفه.
وبصرف النظر عن التفسير الذي يعتمد نظرية التطور البيولوجي والاصطفاء الطبيعي التي جاء بها عالم الأحياء تشارلز داروين، فإن الكتاب يكشف عن جوانب عديدة ومثيرة تتعلق بالدماغ، من خلال دروسه التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
- النصف درس: دماغك ليس للتفكير
يوضح تطور الدماغ البشري على مدى نصف المليار سنة الماضية، ويفنّد الزعم في اختصاصه بعملية التفكير وحسب، ويصححه إلى مساعدته في التكيّف مع البيئة واستمرارية البقاء على نحو أفضل، والعمل على نقل الجينات البشرية إلى الأجيال القادمة.
- الدرس رقم 1: لديك دماغ واحد (لا ثلاثة)
خلافاً لرأي أفلاطون الذي أوجد الدماغ الثلاثي المتصارع حول ثلاث قوى: الغرائز والمشاعر والمنطق، فإن هذا الدرس يرى أن العقلانية كأهم وظائف الدماغ قاطبة، يجب أن تُعرّف من خلال “إدارة ميزانية الجسد”، حيث الدماغ يوفر الطاقة العقلية والجسدية على غرار توفير المال، فالدماغ ككافة أعضاء الجسد يتعرض للضمور إذا لم يتم استخدامه، بل من المهم تجديده وتحفيزه وتعريضه للتحدي باستمرار.
لا تظهر هذه الشبكة كاستعارة في هذا الدرس، بل إن الدماغ في حقيقته يظهر كمجموعة أجزاء متصلة “تعمل كوحدة واحدة” في بنية مرنة وجبارة وغاية في التعقيد .. التوصيلات التي قد تقوى اتصالاتها أو تضعف تبعاً لما يجري في الجسد البشري وفي العالم من حوله، لكنها حتماً لا تكف عن التواصل والتفاعل حتى الموت.
- الدرس رقم 3: الأدمغة الصغيرة توصل أنفسها بعالمها
يتطرق هذا الدرس إلى نمو دماغ الطفل الذي يأخذ في التكيف مع العالم الذي يجد فيه نفسه تلقائياً. وحيث أن “التضبيط والتقليم” والعالم الاجتماعي، يشكّلون على نحو عميق الواقع المادي للتوصيلات الدماغية، فإن الطفل مع حاجته إلى المدخلات المادية كالطعام والضوء والهواء، تصبح المدخلات الاجتماعية على قدر مماثل من الأهمية، بحيث يؤدي عدم تلبية احتياجاتها إلى عواقب بالغة الخطورة.
- الدرس رقم 4: دماغك يتنبأ بكل ما تفعله (تقريباً)
يؤكد هذا الدرس على أن الدماغ يتنبأ بكل ما يفعله الإنسان على نحو كبير، إذ أن ما يراه وما يسمعه وما يحسّه وما يفعله في مختلف المواقف يكون في أغلب الأحوال نتيجة لتوقعات عززتها خبراته السابقة. لذا يصبح من المفيد لعالم يتطلع للسلام أن يسعى إلى تغيير تنبؤاته على نحو يساعد في تطوير شعور التعاطف مع الآخرين، ومن ثم التصرف بشكل مختلف في المستقبل.
- الدرس رقم 5: دماغك يعمل خفية مع أدمغة أخرى
يكشف هذا الدرس عمل الدماغ سراً مع أدمغة أخرى، كنوع من التعاون الخفي والضمني لضمان بقاء البشرية بصورة سليمة ومعافاة، والتي تظهر فيها قدرة التفاعلات الاجتماعية على ضبط الأدمغة، وتهذيب السلوك، والعيش ضمن جماعات يعتني أفرادها ببعضهم البعض، ويصنعون الحضارات، ما مكنّهم من البقاء بل والازدهار تحت ظروف بيئية متباينة، بشكل يفوق قدرات الأنواع البيولوجية الأخرى.
- الدرس رقم 6: الأدمغة تصنع أكثر من نوع واحد من العقول
يفرق هذا الدرس بين العقل والدماغ … فدماغ ما في جسد ما في ثقافة ما، لا بد وأن تنتج نوع ما من العقول، إذ يأتي كل إنسان إلى هذا العالم بخطة دماغية محددة وبملامح أساسية ومختلفة، تتفاعل بطرق متعددة من أجل بناء نوع مختلف من العقول، وهكذا تتفاعل الأدمغة البشرية من أجل صنع أنواع متنوعة من العقول، تختلف من ثقافة لأخرى بل تختلف ضمن حدود الثقافة الواحدة.
- الدرس رقم 7: أدمغتنا يمكن أن تخلق الحقيقة
يفيد هذا الدرس بأن البشر يحيون في عالم من واقع اجتماعي فريد من نوعه لا يوجد إلا داخل أدمغتهم .. الأدمغة التي -في نفس الوقت- تخلط بين الحقيقة الاجتماعية والحقيقة المادية. فكسائر الأنواع البيولوجية، يتنوع البشر تنوعاً هائلاً في اختلاف السمات الجسدية، غير أنهم -وعلى نقيض الأنواع الأخرى- يعمدون إلى تعليب هذه السمات في أنواع اجتماعية، أو فيما عرّفوه بـ (الأعراق).
ومن تلك الدروس التي حصد بها الكتاب رصيد أنجمي الخماسي كاملاً، وقد جاء في ترجمة متقنة من نصّه الأصلي (Seven and a Half Lessons About the Brain – By: Lisa Feldman Barrett) أقتبس (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) ما جاء في الدرس الخامس عن مدى تأثير الكلمات على المجال الحيوي للإنسان والذي قد يمتد لمسافات هائلة، أو كما تضرب الباحثة مثلاً في كلمة (أحبك) التي تكتبها من أمريكا لصديقتها في بلجيكا، والتي رغم أنها لا تسمع صوتها ولا ترى وجهها، إلا أن تلك الكلمة ستتكفل بتغيير معدل ضربات قلبها وتلاحق أنفاسها .. كلمة واحدة كفيلة بالتأثير على الجهاز العصبي:
“يمكن لجهازك العصبي أن ينزعج ليس فقط من وراء المسافات البعيدة، ولكن أيضًا من وراء القرون المديدة. إذا كان قد سبق لك أن استمددت سلوى من نصوص قديمة، مثل الكتاب المقدس أو القرآن فاعلم أنك تلقيت مساعدة في إدارة ميزانية جسدك من أشخاص رحلوا منذ أمد بعيد. الكتب والفيديوهات والمدوّنات الصوتية يمكن أن تشعرك بالدفء أو تصيبك بالقشعريرة. قد لا تستمر تلك التأثيرات لوقت طويل، غير أن الأبحاث تظهر أننا جميعا نستطيع إحداث تعديلات سريعة في الأجهزة العصبية الخاصة ببعضنا بعضًا باستخدام الكلمات وحدها بطرق شديدة المادية على نحو قد يتجاوز خيالك”
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (127) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، وهو في الترتيب (12) ضمن (15) كتاب قرأتهم في نوفمبر .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية في مايو الماضي، ضمن (250) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى مواصلة النهار بالليل في القراءة وحدها .. وكأنه حلم تحقق!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: أهل الكتابة والقراءة / لا سلام لفلسطين: الحرب الطويلة ضد غزة / من كتبي: اعترافات قارئة عادية / عزيزي العالم: فتاة سورية تروي الحرب وتُطالب بالسلام / العشق / الاكتئاب: أسبابه وطرق علاجه / مائة نصيحة لحياة سعيدة / مذكرات طبيبة / زاد المعاد / يعني إيه راجل؟
وعلى رف (العلم) في مكتبتي عدد جيد من الإصدارات آخذ في الزيادة، منها ما انتقل من مكتبة العائلة .. ومنها ما نشرت على مدونتي!
تسلسل الكتاب على المدونة: 577
التعليقات