ليست رواية كما يعرض الغلاف الأول، بل أقرب إلى سيرة ذاتية ضمّنها الكاتب -والذي يُلقّب بملك الشعراء الداغستانيين بلا منازع- حب وطنه عن أي حديث آخر! إنه كتاب تسكنه حكايات كتلك التي يرويها الأجداد للأحفاد، تتعمق به حكمة تعلّم ما الحياة، يفصح عن عشق يحتضن وطن بسمائه بتراب أرضه، يتفتّق عن شعر فيه الجبل ينحني للجبليين، يرسم حلماً ينثر عطراً يخلّد أناساً ماتوا وتركوا أثراً .. هنا الحب والشعر والجبل والماء والدرب والحقل والزهر والناس والأرض والسماء .. هنا شاعر من داغستان!
إنه رسول حمزاتوف (1923 : 2003)، المولود في قرية تسادا الواقعة في جمهورية داغستان في منطقة القوقاز جنوب الجزء الأوروبي من روسيا، ووالده هو شاعر داغستان الأشهر حمزة تساداسا، وقد أسماه (رسول) تيمناً بنبي الإسلام محمد ﷺ. وقد حصل على العديد من التكريمات الأوسمة والجوائز المحلية والعالمية عن إصداراته الأدبية والشعرية.
لكن! ورغم ما سبق، فقد جاء حديث الشاعر إنشائياً معاداً مكرراً حدّ الإسراف، محشواً بقصص التراث الشعبي، وأمثاله وأساطيره، وبطولات رجال داغستان، وروايات حياته، وما لقّنه والده من حكمة، وكيف أراد أن يكتب كتابه ….، يشفع له في ذلك كله عاطفته التي بدت صادقة في عشق وطنه وحب شعبه!
يضم الكتاب مجلدين، يسرد فيهما الشاعر كل ما جال في خاطره عن وطنه، ما قد يجعل تصنيفه في (أدب الرحلة) أكثر دقة ضمن التصنيفات الأخرى التي قد تسعه. وهما بمحتواهما كما يلي:
- الكتاب الأول:
- بدلاً من المقدمة ومن المقدمات على العموم
- كيف ولد هذا الكتاب وكيف كتب؟
- في معنى هذا الكتاب وفي الغرض منه
- في شكل هذا الكتاب وكيف يجب أن يكتب
- اللغة
- الموضوع
- النوع
- الأسلوب
- بناء هذا الكتاب
- العبقرية
- العمل
- الحقيقة، الشجاعة
- شكوك
- الكتاب الثاني:
- الأب والأم، النار والماء
- البيت
- كنوز داغستان الثلاثة
- الإنسان
- الشعب
- الكلمة
- الأغنية
- الكتاب
ومن جميل الكتاب الذي كتبه الشاعر بلغته الآفارية (Мой Дагестан – By: Расул Гамзатов)، والتي يتحدث بها ثلاثمائة ألف نسمة فقط يقطنون الجبل، أقتطف زهرات جبلية، وأقتبس في نص جبلي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- ينتهي الشاعر (في شكل هذا الكتاب وكيف يجب أن يكتب)، وقبل استهلال كتابه، بالهواجس، وقد أخذت منه مأخذاً حول مقدرته على رسم خارطة بلاده تامة، والخروج بها للبشر حول العالم، فهو إذ يمتلك اللغة والتجربة والذكرى والأغنية والتاريخ والحب والأهل والناس، وماضي شعبه وحاضره ومستقبله .. ليس متيقناً، كالصائغ الذي يمتلك الذهب والمطارق والدمغات لكن لا يمتلك يدان ذهبيتان بارعتان، بالضرورة. فيستعين بالتراث الشعبي للتدليل على حاله: “يُقال: لتهجرن الفارس زوجه إذا لم يكن له جواد .. ويُقال أيضاً: لتهجرن الفارس زوجه إذا لم يكن لحصانه سرج أو سوط”.
- وفي (الموضوع)، يؤمن الشاعر أن لبعض الأخطاء من الفداحة ما يستحيل تصحيحها، كالزجاج حين ينكسر ويتفتت ويتبعثر. وخير عقاب يكون، لا الزمن الذي سيمضي ويطوي معه ما كان، بل الضمير الذي سيتكفل بنهش صاحبه ما دام حياً. ينقل عن والده حكمته في هذا ويقول: “كان والدي يقول لي: إذا قمت بعمل غير لائق، معيب، فإنك لن تعيده إلى الوراء مهما صليت. وكان والدي يقول أيضاً: الإنسان الذي قام بعمل معيب، ويأخذ بالندم عليه بعد عدة سنوات، يشبه إنساناً يريد أن يسدد دينه بأوراق مالية قديمة تعود إلى ما قبل الإصلاح النقدي. وكان والدي يقول أيضاً: إذا سمحت للشر أن يفعل ما يريد، ثم أطلقته من بيتك حراً طليقاً، فما جدوى أن تحطم المكان الذي كان يجلس فيه؟ وما جدوى أن توصد الأبواب بالأقفال الثقيلة بعد إخراج الثيران؟”.
- بشدة، يعتقد الشاعر بضرورة رفع البناء على أسس من الأفكار والمشاعر والأحداث، ليكون مبهجاً للعين، مناسباً متناسقاً، لا صغيراً كالشقق ولا واسعاً كساحة غناء! فقصور أفكاره واسعة، وأبراج تأملاته ثقيلة، ومسلّات أشعاره سامقة، وبيوت قصصه رحبة، ولا عليه سوى أن يمتهن هندسة البناء امتهانه إقراض الشعر. فيقول في (بناء هذا الكتاب): “الجميع يعرفون ما هم في حاجة إليه، لكنهم لا يستطيعون كلهم بلوغه. الجميع يرون هدفهم، إنما لا يستطيع أي كان أن يبلغه، وهناك أناس يبدو لهم أنهم يعرفون كيف يجب أن يكتب كتاب، لكنهم لا يستطيعون كتابته”. ويكمل في قول أبلغ حكمة: “يقال: الإبرة الواحدة تخيط ثوب العرس والكفن .. يقال: لا تفتح باباً لا تستطيع بعد ذلك أن تسده”.
- إن الإنسان إما أن يكون صاحب عبقرية أو لا يكون! إنها لا توهب، وإنها لا تُنتزع، بل إنه يولد بها! يتساءل الشاعر في (العبقرية) عن هذه المَلَكة؟ ما مصدرها؟ أهي هبة من السماء، أم أنها عطية من الأرض، أم الاثنان معاً؟ أين مكانها؟ في الرأس، في القلب، في الدم؟ ما غذائها؟ الحب، الحقد، الفرح، الحزن، البسمة، الدمع؟ ما أصلها؟ وراثية أم مكتسبة؟ أهي تنتقل بيولوجياً من الآباء إلى الأبناء، أم تتراكم كحصيلة خبرات حياتية؟ يقول الشاعر وقد آمن كما يبدو بأن العبقرية حصيلة جهد بشري لا فعل الطبيعة: “نعم إن العبقرية تتغذّى بالعواطف الإنسانية القوية، من الحب والكره، كالنار التي تتغذى بالحطب اليابس .. يمكن للقصيدة أن تبعثها بسمة مشرقة أو دمعة مرّة”. ويقول مؤكداً: “إن الأعمى الموهوب يرى ما لا يراه المبصر غير الموهوب. وقد قال أحد الحكماء: إن الرجل الذكي يرى من دون أن يترك كرسيه، ما لا يراه الأحمق الذي قام بجولة حول العالم”.
- تأخذ الشكوك بالشاعر! فهو يخط في كتبه الدروب التي قطعها خائفاً تارة وجسوراً تارة أخرى .. عندما كان يصعد القمة وعندما كان يتردى في الهاوية! تلك الكتب كان يراها كانتصارات دامية، كمغامرة غير متوقعة النتائج، فإما تتوجّه بالمجد أو تعلّمه بعد فات الأوان أنه أهدر دمه سدى. يعبّر في (شكوك) عن ترّقبه لذلك اليوم الذي لا يتبقى في العالم أية أسرار، غير أنه لا يصف الشاعر كذلك إذا لم يكشف للناس سرّاً، فيقول: “فأنا الشاعر، وحين آتي إلى العالم أرفع الستار عن المكان والزمان، كما يرفع العروس الطرحة عن وجه عروسه. والشاعر وحده هو القادر على أن يفعل هذا في الحياة، فيعرف الناس الواقع، ويدهشون له، ويدهشون لما لم يروه في السابق: لجمال العالم أو جمال النفس الإنسانية اللذين يقفان في وجه قوى الشر“.
- أما عن الوطن الذي أخذ من روحه، فأغدق على كتابه من بحور عشقه كلمات لا أظنّها تنضب، فلها الحق أن تُكتب دونما مقدمات أو تعقيب .. ومنها:
“داغ تعني الجبل، وستان تعني البلد، فداغستان هي بلد الجبال، البلد الجبل، البلد الجبلي، البلد الأبي .. هي داغستان.
مثل طفل يتعلم التهجي
لا أسأمُ، تمتمة، تردادً، قول:
دا – غـــ – ســـتان، دا – غـــ – ســـتان
من وماذا؟ داغســـــــــتان
عمن؟ عنها دائماً
وطن لداغســـــــــتان”
“أتطلع إلى أعلى، فأرى السماء المنسوجة من شمس ومطر، ومن نار وماء .. وكانت أمي تقول لنا دائماً: إن داغستان ذاتها خُلقت من نار وماء أثناء النوم”.
“الأم الأولى هي داغستان .. هنا ولدتُ، وهنا سمعتُ لأول مرة لغتنا الأم، وتعلمتها فدخلت في لحمي ودمي، وهنا سمعتُ لأول مرة أغانينا ولأول مرة غنيت، هنا أحسستُ لأول مرة بطعم الماء والخبز، ومهما يكن من أمر الجروح التي كنت أصاب بها وأنا أتسلق الصخور الحادة، فقد كانت مياه أرضنا وأعشابها تشفيها كلها، يقول الجبليون: ليس هناك مرض ليس له في جبالنا عشب يشفيه”.
“الجبليون صبورون جداً في شجارهم. يتبادلون الكثير من الكلمات المسيئة، لكنهم يصبرون ويردون على كلمات الإساءة بكلمات تناسبها، ويجري الأمر على هذا المنوال مادامت كلمات الإساءة تمس المتشاجرين ذاتهم، والويل الويل إذا مُس شرف الأم أو شرف الأخت بكلمة غير مقصودة، غير حذرة، وقتها يتفاقم الأمر وتستل الخناجر! داغستان أنت أم بالنسبة لي، فليذكر هذا كل من يضطر إلى نزالي. يمكن الإساءة إليّ بأي كلمة، وسأحتمل. لكن لا تمسوا بلدي داغستان! داغستان حبي وقسمي .. دعائي وصلاتي. أنت وحدك الموضوع الرئيس لكل كتبي ولكل حياتي”.
جاءت ترجمة الكتاب -التي اشترك بها مترجمين- أخاذة، باستثناء بعض المفردات الغريبة، مثل: صفحة (23): ولا أرى محادل / صفحة (25): على رأسي قلبق / صفحة (44): حين يصنعون الأوربيتش / صفحة (212): أي محجن / صفحة (247): يلقي أعقاب سكايره / صفحة (293): ابنة الخنكل / صفحة (416): المموسق
ورغم رأيي السابق في الكتاب الذي حظي باثنتان من رصيد أنجمي الخماسي، فإن دار النشر تتفرّد بتميّز خاص ضمن دور النشر العربية ما يجعلها المفضّلة لدي، والتي تحظى مكتبتي بمجموعة لا يستهان بها من إصداراتها الثرية.
وأختم بأمنية الشاعر التي وجدتها تهمس لحلم يختبئ في أعماق روحي “آه! كم أود لو تسقط مني -على قصاصة ورق- كلمات .. تتحول الورقة بفعلها كما يفعل ماء الحياة إلى شجرة خضراء يانعة، كتلك الشجرة التي صُنعت منها هذه الورقة”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً من المفكّرة: جاء تسلسل الكتاب (4) في قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لهذا العام .. 2022، وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2018 ضمن (140) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
أنشطة شهر فبراير: ومع هذا الكتاب، قرأت ستة كتب أخرى.
تسلسل الكتاب على المدونة: 336
التعليقات